عدد الرسائل : 209 العمر : 52 نقاط : 576 تاريخ التسجيل : 25/01/2009
موضوع: الإسلام والحث على التربية والعمل(3) الخميس 01 أكتوبر 2009, 12:18 pm
العمل بالعلم في السنة النبوية
لقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الهدى والرحمة محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – مؤكدة إتباع العلم بالعمل. وأن على المسلم أن يدعو الناس بسلوكه قبل أن يدعوهم بكلامه، وأن يحرص على الخير لنفسه كما يهديه لغيره. ولنا في رسولنا أسوة حسنة. وهذه بعض الأحاديث:
الحديث الأول: عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله - r -: فقالت " أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى: قالت: كان خلقه القرآن"([19]).
إنها إجابة موجزة جامعة من أم المؤمنين – رضي الله عنها – مفادها أن القرآن بأحكامه وأخلاقه قد تحول إلى سلوك واقعي في حياة الرسول - r - فقد صار القرآن سجية له، وخلقاً تطبعه، فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه.
هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم، فإذا أردت أن تعرف أخلاقه - r - فاقرأ القرآن. واعلم أن الدين الجامع لأوامر الله – تعالى – ونواهيه هو خلق الرسول - ومن هنا جاءت أهمية دراسة هدى الرسول - r - وسيرته، إذ أنها تطبيق عملي لما جاء عن الله – تعالى – سواء ما كان منها متعلقاً بالعقيدة أو الأحكام أو الأخلاق؛ لأن هذه مبادئ الإسلام وأحكامه التي لا ينفصل بعضها عن بعض
الحديث الثاني: عن أسامة بن زيد – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - r - يقول: "يجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاه. فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان. ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله. وأنهى عن المنكر وأفعله"([22]).
إنه وعيد عظيم، يثير الفزع في النفوس، بتصور هذا المنظر المخيف. منظر رجل يلقى في النار فتنصب مصارينه من جوفه، ويدور فيها، فيجتمع أهل النار حوله يتعجبون من هيأته ويسألونه عن شأنه وحاله.
إنه ليس وعيداً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا مطلوب من كل أحد، ولكنه وعيد على ارتكابه المنكر عالماً به، ينصح الناس عنه ثم يخالفهم إليه ويفعله.
قال في دليل الفالحين: (فشدد عليه الأمر لعصيانه مع العلم المقتضي للخشية، والمباعدة عن المخالفةوأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه. فكيف الحياة مع هؤلاء؟ الحديث الثالث: عن أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - r -: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؛ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟"([25]).
الحديث الرابع: عن زيد بن أرقم – رضي الله عنه – قال: كان من دعاء النبي - r -: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها"(
وأخرجه ابن ماجة عن جابر بلفظ: "سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع"(]).
وقد ذكر العلماء أن العلم الذي لا ينفع، هو الذي لا يعمل به، فلا يهذب الأخلاق، ولا ينفع صاحبه في حيازة الفضل والثواب(قال ابن القيم – رحمه الله -: (العلماء ثلاثة: عالم استنار بنوره واستنار به الناس فهذا من خلفاء الرسل. وورثة الأنبياء، وعالم استنار بنوره ولم يستنر به غيره فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما، وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه وبسطته للناس فتنة لهم وبسطة الأول رحمة لهم"
إن العلم الذي لا ينفع صاحبه، ليس من عمل الآخرة وهو حجة عليه يوم القدوم على الله، وربما كان ذريعة من ذرائع الشقاء نعوذ بالله من ذلك.
الحديث الخامس: عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله - r -: "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه"([30]).
الحديث السادس: عن أبي برزة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - r -: "مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق نفسها"
وما أروع هذا التشبيه وما أبلغه، ممن أوتي جوامع الكلم عليه من الله أفضل الصلاة والسلام. فقد شبه الداعية ومعلم الناس الخير الذي لم يستفد من علمه ولم يستنر بنوره بالسراج تارة وبالفتيلة تارة أخرى.
فالسراج يضيء للناس فيستفيدون من نوره ولكنه يحرق نفسه ويصطلي بحرارة فتيلته، فأفاد غيره ولم يستفد بنفسه وهكذا من يعلم الناس وينسى نفسه. فهو يضيء لغيره طريق الخير ويدله عليه وهو لا يجني إلا التعب والعناء في الدنيا، والاصطلاء بالنار يوم القيامة، كما دلت على ذلك النصوص، ولو كان عاملاً بعلمه لكان مثاباً على جهده.
الحديث السابع: عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي - r - قال: "مررت ليلة أسري بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون"([32]).
إن للخطابة شأناً كبيراً . . حيث إن الخطيب يقف أمام جماهير من الناس، يعلمهم ويرشدهم، وهم مستمعون منصتون، جاءوا إليه طائعين راغبين، ينظرون إليه بأعينهم، ويستمعون بآذانهم، ولا بد أن يكون على مستوى القدوة والمسؤولية.
وكلما كان الخطيب مرموقاً ينظر إليه، تضاعفت المسؤولية في حقه؛ لأنه متبع.
إن الخطابة مجال مناسب جداً للدعوة إلى الله، ولا سيما خطب الجمعة، فعلى الخطيب أن يخاطب الناس بفعله قبل أن يخاطبهم بقوله، وأن يأخذ نفسه بالحزم ويطبق ما سيقوله على نفسه قبل أن يعلنه أمام الحاضرين.
وهذا له أثر كبير في نجاح الخطيب وارتفاع منـزلته أولاً، وثقة الناس به، والاستفادة منه ثانياً.
ولما كان الخطيب بهذه المنـزلة، وله هذا التأثير في مجتمعه، ورد في حقه هذا الوعيد الخاص – عدا الوعيد العام – إذا صار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويركز في خطبته على أمراض المجتمع. ثم هو يخالف ما يقول ويخفق في الملاءمة بين قوله وفعله وناسب أن يكون عقابه على ذلك من جنس وظيفته. نسأل الله السلامة.
فهذه النصوص وغيرها أدلة واضحة على عظم المسؤولية الملقاة على عاتق طالب العلم، وهي مسؤولية العمل به، وظهور آثاره وثمراته على صاحبه، وعدم العمل بالعلم حجة على العالم وفساد للعالم؛ لأن فساد العالم بفساد علمائه. كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء)
ولهذا الوعيد الشديد في حديث أنس هذا، وحديث أسامة وغيرهما عدّ ابن حجر الهيثمي عدم العمل بالعلم من كبائر الذنوب، لصدق ضابط الكبيرة على ذلك والمعصية من العالم وإن كانت صغيرة أمرها عظيم بسبب ما أعطيه من العلم المقتضي لانزجاره عن المكروهات وفضلاً عن المحرمات(
ولما عدّ ابن القيم الكبائر قال: (ومنها أن يقول ما لا يفعل. قال الله – تعالى -: }كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
العمل بالقرآن
إن النصوص المتقدمة التي تفيد العمل بالعلم وذم من لا يعمل بعلمه عامة تشمل العمل بالقرآن وكل ما جاء في هذه الشريعة الإسلامية، إلا أننا نجد نصوصاً أخرى تركز على وجوب العمل بالقرآن والتقيد بأوامره ونواهيه. ولا سيما من رزقه الله – تعالى – حفظ كتابه وتجويد تلاوته. ونحن نشير إلى طرف منها.
قال – تعالى -: }الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته { [البقرة: 121].
يقول ابن مسعود – رضي الله عنه -: "والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله. ولا يحرف الكلم عن مواضعه. ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله".
وعن مجاهد قال: (يتلونه حق تلاوته): يتبعون حق اتباعه(وهكذا قال ابن عباس والحسن البصري وعطاء وغيرهم. وهذا على القول بأن الآية يراد بها أصحاب النبي - r -. آمنوا بكتاب الله وصدقوا به كما رواه ابن جرير عن قتادة([
وحتى على القول الثاني وهو أن المراد بها علماء بني إسرائيل بدلالة ما قبلها وما بعدها تكون الآية دليلاً لما نحن بصدده. لأنه إذا ثبت ذلك في حق أهل الكتاب بالنسبة إلى كتابهم. فهو مطلوب من المسلمين بالنسبة إلى القرآن من باب أولى. لأن القرآن له من الخصائص والمطالب ما ليس لغيره لأن الله – تعالى – جعله مصدقاً لما قبله ومهيمناً عليه.
إن الغاية الكبرى من إنزال القرآن، تصديق أخباره والعمل به بامتثال ما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه، ليس الغرض من إنزاله التلاوة اللفظية وهي القراءة الصحيحة التي يكون القارئ فيها متحلياً بأجمل الصفات وأشرف الخصال، تعظيماً لله – تعالى – وتأدباً مع كلامه فإن هذا وإن كان مطلوباً لكن هناك تلاوة حكمية عليها مدار السعادة أو الشقاء إنها اتباع القرآن. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أن لفظ التلاوة إذا أطلق في مثل قوله تعالى: }الذين أتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته{. تناول العمل بالقرآن كما تقدم عن ابن مسعود وغيره(
يقول سيد قطب – رحمه الله -: (وتلاوة كتاب الله تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت، تعني تلاوته عن تدبر، ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك . . . )
وعلى هذا درج السلف الصالح من هذه الأمة، فهم يتعلمون القرآن ويصدقون به. ويطبقونه في كل شأن من شئون حياتهم، لقد كان الواحد منهم يتلقى القرآن ليعمل به فور سماعه، فيقوم بتنفيذ أحكامه في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها أخرج بن جرير – رحمه الله – بسنده عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"
وعن أبي عبد الرحمن السلمي – وهو من كبار التابعين – قال: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي - r - فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل. فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً"
وقد ذم الله – تعالى – اليهود على تركهم العمل بما في التوراة من العقائد والعبادات والآداب والأخلاق. وشبههم بالحمار الذي يحمل على ظهره أسفاراً من كتب العلم النافع، وهو لا يدرك ما على ظهره من الخير. فقال تعالى: }مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين { [الجمعة: 5].
ولا ريب أن من يقرأ القرآن ويعرض عن أحكامه وآدابه فيه شبه من اليهود. فليحذر طالب العلم وقارئ القرآن أن ينطبق عليه هذا المثل الذي قال الله عنه: }بئس مثل القوم {.
يقول القرطبي – رحمه الله -: (وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء)(
وقال ابن القيم –رحمه الله - (فقاس من حمّله سبحانه كتابه ليؤمن به، ويتدبره، ويعمل به، ويدعو إليه، ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب – فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له وعمل بموجبه – كحمار على ظهره زاملة أسفار، لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا، فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره، فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته)(
وقد ورد عن الرسول - r - الوعيد العظيم لمن أعرض عن القرآن، وذلك في حديث سمرة بن جندب – الطويل – عن النبي - r - في الرؤيا التي رآها قال: "أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن المكتوبة". وفي رواية: "والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار
قال ابن هبيرة: (رفض القرآن بعد حفظه جناية عظيمة لأنه يوهم أنه رأى فيه ما يوجب رفضه فلما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن عوقب في أشرف أعضائه وهو الرأس).
وقال الحافظ ابن حجر: ([قوله: وينام عن الصلاة المكتوبة]: هذا أوضح من رواية جرير بن حازم بلفظ "علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار" فإن ظاهره أنه يعذب على ترك قراءة القرآن بالليل بخلاف رواية عوف فإنه على تركه الصلاة المكتوبة. ويحتمل أن يكون التعذيب على مجموع الأمرين ترك القراءة وترك العمل)
وعلى أي حال فهذا وعيد شديد لأن ثلغ الرأس وشدخه عقوبة عظيمة دالة على أن ترك العمل بالقرآن ذنب، يستحق مرتكبه العقاب نسأل الله الهداية والسلامة.
وكما ورد عنه - r - الوعيد على هجر القرآن سلوكاً وعملاً. كذا ورد عنه بيان ثواب من عمل بالقرآن وأنه حجة لصاحبه يوم القيامة. ففي حديث أبي موسى الأشعري أنه - r - قال: "والقرآن حجة لك أو عليك"([قال القرطبي في (التذكار في أفضل الأذكار): (القرآن حجة لمن عمل به واتبع ما فيه. وحجة على من لم يعمل به ولم يتبع ما فيه. فمن أوتي القرآن فلم ينتفع، وزجرته نواهيه فلم يرتدع، وارتكب من المآثم قبيحاً، ومن الجرائم فضوحاً، كان القرآن حجة عليه وخصماً لديه)([47]).
وقال مكي بن أبي طالب القيسي في الرعاية: (أولى الناس بهذا القرآن من عمل به وإن لم يحفظه. وإن أشقى الناس بهذا القرآن من حفظه ولم يعمل بما فيه . . فليتق الله حامل القرآن في نفسه وليخلص الطلب والعمل لله. فإن كان قد تقدم له شيء مما يكره فليبادر إلى التوبة والإنابة من ذلك. وليبدأ بالإخلاص في طلبه وعمله فالذي يلزم حامل القرآن من التحفظ أعظم مما يلزم غيره كما أن له من الأجر ما ليس لغيره)([48]).
وعن النواس بن سمعان – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - r - يقول: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به. تقدمه سورة البقرة وآل عمران. وضرب لهما رسول الله - r - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: كأنهما غمامتان أو ظلمتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حِزْقان من طير صواف. تحاجان عن صاحبهما"([49]).
فتأمل – رحمك الله – هذا الحديث حيث دل على أن من قرأ القرآن وعمل به فهو من أهل القرآن، ومن قرأه ولم يعمل به لم يكن من أهله. فلا يكون القرآن شفيعاً له بل يكون حجة عليه.
كما دلً على أن القرآن يخاصم عن صاحبه المكثر من قراءته ويظهر حجته. ومن كان القرآن مخاصماً عنه فإن الفوز والنصر والفلاح سيكون من نصيبه إن شاء الله تعالى.
وعن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - r - يقول: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه"([50]).
وعن جابر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - r -: "القرآن شافع مشفع وما حل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار"([51]).
نعم، إن ربي على كل شيء قدير. إن ظاهر هذا الحديث وما قبله يدل على أن الله – جل وعلا – يصور القرآن بصورة، بحيث يجيء يوم القيامة ويراه الناس. فليقبل المؤمن هذا وأمثاله، ويؤمن به وليس للعقل فيه مجال.
القرآن يأتي يوم القيامة فيشفع لصاحبه المشتغل به الذي يأتمر بأمره وينـزجر عن نهيه، يشفع له عند الله وتقبل شفاعته. وما جعله الله – تعالى – شافعاً إلا ليقبل شفاعته. ثم يقوده إلى الجنة. نسأل الله الكريم من فضله.
أما من قرأ القرآن وتعدى حدوده وضيع فرائضه وترك طاعته فإنه لا يشفع له. بل يكون شاهداً عليه. ويقوده إلى النار عياذاً بالله.
يقول ابن الأثير – رحمه الله -: (وما حل مصدق أي: خصم مجادل مصدق. وقيل ساع مصدق. من قولهم: محل بفلان إذا سعى به إلى السلطان. يعني أن من اتبعه وعمل بما فيه فإنه شافع (مقبول الشفاعة. ومصدق عليه فيما يرفع من مساويه إذا ترك العمل به)([52]).
من أقوال السلف والعلماء
في اقتضاء العمل العلم
عن علي – رضي الله عنه - أنه ذكر فتناً في آخر الزمان. فقال له عمر: متى ذلك يا علي؟ قال: (إذا تفقه لغير الدين وتعلم العلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة)([53]).
قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: "تعلموا فإذا علمتم فاعملوا"([54]).
وعن لقمان بن عامر قال: كان أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول: (إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر. فأقول: لبيك ربّ. فيقول: ما عملت فيما علمت)([55]).
وقال الخطيب البغدادي: (ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة. والعمل ثمرة. وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً . . والعلم يراد للعمل كما يراد العمل للنجاة، فإن كان العمل قاصراً عن العلم كان العلم كلاّ على العالم. ونعوذ بالله من علم عاد كلاً، وأورث ذلاً وصار في رقبة صاحبه غُلاّ.
وهل أدرك من أدرك من السلف الماضي الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا . . وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر أمرؤ لنفسه وليغتنم وقته فإن الثواء قليل والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب والخطر عظيم، والناقد بصير. والله – تعالى – بالمرصاد. وإليه المرجع والمآب }فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره{([56]).
وقال ابن الجوزي – رحمه الله -: (من علم أن الدنيا دار سباق، وتحصيل للفضائل، وأنه كلما علت مرتبته في علم وعمل زادت المرتبة في دار الجزاء، انتهب الزمان ولم يضيع لحظة ولم يترك فضيلة تمكنه إلا حصلها، ومن وفق لهذا فليبكر زمانه بالعلم، وليصابر كل محنة وفقر، إلى أن يحصل له ما يريد، وليكن مخلصاً في طلب العلم عاملاً به حافظاً له فأما أن يفوته الإخلاص فذلك تضييع زمان وخسران الجزاء، وأما أن يفوته العمل به فذاك يقوي الحجة عليه والعقاب له وأما جمعه من غير حفظه فإن العلم ما كان في الصدر لا في القمطر، ومتى أخلص في طلبه دله على الله عزّ وجل)([57]).
وقال الراغب الأصبهاني المتوفى سنة 502 هـ: (العبادة ضربان: علم وعمل. وحقهما أن يتلازما، لأن العلم كالأسِّ والعمل كالبناء، وكما لن يغنى أسّ ما لم يكن بناء ولا يثبت بناء ما لم يكن أسّ، كذلك لا يغني علم بغير عمل ولا عمل بغير علم. ولذلك قال – تعالى -: }إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه { [فاطر: 10]. والعلم أشرفهما ولكن لا يغني بغير عمل . . . )([58]).
وقال بعض العلماء: (العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلو لا العمل لم يطلب علم، ولو لا العلم لم يطلب عمل. ولأن أدع الحق جهلاً به أحب إلى من أن أدعه زهداً فيه)([59]).
وقال الزرنوجي – رحمه الله -: (وإنما شرف العلم بكونه وسيلة إلى البر والتقوى الذي يستحق بها المرء الكرامة عند الله، والسعادة الأبدية . . فينبغي للإنسان ألا يغفل عن نفسه، ما ينفعها وما يضرها في أولها وآخرها، ويستجلب ما ينفعها، ويجتنب ما يضرها، كي لا يكون عقله وعلمه حجة عليه، فيزداد عقوبة، نعوذ بالله من سخطه وعقابه)([60]).
وقال ابن القيم – رحمه الله -: (وجهاد النفس أربع مراتب):
1) إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
2) الثانية: أن يجاهدها على العمل به، بعد علمه. وإلا مجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
3) الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
4) الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السموات)([61]).
وقال الراغب الأصفهاني المتقدم ذكره في كتابه (الذريعة): (ويجب أن لا يتعرى علمه عن مراعاة العمل فيه بتبلغ، ألا ترى أنه ما خلا ذكر الإيمان به في عامة القرآن من ذكر العمل الصالح كقوله تعالى: }الذين آمنوا وعملوا الصالحات {. وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: }إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه{ وقيل: كثرة العلم من غير العمل مادة للذنوب، وقيل: العلم أسُّ، والعمل بناء والأس بلا بناء باطل، وقال رجل لرجل يستكثر من العلم ولا يعمل: يا هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح فمتى تقاتل؟ وقال الشاعر ما يصلح أن يكون إشارة إلى هذا المعنى:
فعلام إن لم أشف نفساً حرة يا صاحبي أجيد حمل سلاحي([62])
مختارات من الشعر والنظم في العمل بالعلم
آثار العمل بالعلم
للعمل بالعلم فوائد عظيمة، وآثار حميدة، يجنيها طالب العلم في الدنيا والآخرة، ويحسها كل من عمل بعلمه. وتنعدم هذه الآثار، إذا لم يستطع العالم أن يوافق بين علمه وسلوكه، ولعظم هذه الآثار، رأينا كيف شدد الإسلام في عقوبة من لا يعمل بعلمه فيأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويفعله.
ولم أقف على هذه الآثار مجتمعة، وإنما اجتهدت في استنباطها من النصوص على قدر فهمي لها وإدراكي لمعناها. فمن هذه الآثار:
1) حصول الرفعة في الدنيا والآخرة. قال – تعالى -: }يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات{. وقال - r -: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين".
ولا ريب أن هذه الرفعة والمكانة لا تكون إلا لأهل العلم العاملين به، وكيف تكون لمن لا يعمل بعلمه وهو مذموم شرعاً وعقلاً؟
قال الشوكاني: "يرفع الله الذين آمنوا منكم" في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيها "والذين أوتوا العلم درجات" أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة. ومعنى الآية: أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات. فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات..)([70])
2) الذي يعمل بعلمه لا يضل في حياته. ولا يشقى في آخرته. وكيف يضل وقد تمسك بالوحي الذي جعله الله – تعالى – هداية لجميع الناس، وكيف يشقى وقد عمل بعلمه فأعد رصيداً من العمل الصالح المؤسس على علم نافع؟ أعده لذلك اليوم العظيم؟ قال الله – تعالى -: }فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . .{[طه: 123].
وقد تكفل الله – تعالى – لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة، ويجزيه أجره موفراً في الآخرة. فقال تعالى }من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون{ [النحل: 97].
والجمهور على أن الحياة الطيبة في الدنيا وذلك بالعمل الصالح والعافية والرزق الحلال، وانشراح الصدر وهدوء البال. ومما يؤيد ذلك أن الله – جل وعلا – ذكر جزاءه في الآخرة في نهاية الآية. فلو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة حياته في الجنة – كما يقوله جماعة من السلف – لكان قوله تعالى: }ولنجزينهم أجرهم {. تكراراً أو توكيداً؛ لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم، والتأسيس مقدم على التوكيد والله أعلم([71]).
وإذا كان هذا جزاء من عمل صالحاً فلا ريب أن العمل الصالح قائم على العلم النافع، فمن تمسك بالقرآن علماً وعملاً فله هذه الحياة الطيبة. والتي لا يلزم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال؛ لأن المال عنصر واحد من عناصر الحياة الطيبة يكفي منه القليل كما قال - r -: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه"([72]).
وبضد ذلك من أعرض عن وحي الله فله المعيشة الضنك في الدنيا. عيشة تضيق بها نفسه، ولا يسعد بها ولو كانت واسعة. ويضيق عليه قبره ويشقى فيه طيلة حياة البرزخ، ويحشر يوم القيامة أعمى لا حجة له. ولا بصر يبصر به، وينسى في العذاب الأليم، ويترك كما ترك العمل بآيات الله. هذا جزاء من أعرض عن القرآن في الدنيا والآخرة، معذب في الدنيا معذب في البرزخ معذب في الآخرة. قال تعالى: }ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى{. [طه: 124– 127]([73]).
وأكثر المفسرين على أن هذه الآيات في الكافر، لكن من أعرض عن آيات الله فله حظ من الوعيد بحسب إعراضه استناداً إلى العموم الدال على الشمول والله أعلم.
3) الذي يعمل بعلمه حري بالنجاة يوم القيامة والإجابة السديدة على السؤال الذي سيوجه إليه قبل أن تزول قدماه من عند ربه (ماذا عملت فيما علمت)؟ ولابد أن يُعد المسلم للسؤال جواباً، وأن يكون الجواب صواباً.
ويبدو لي أن الإجابة الصحيحة على هذا السؤال نجاح فيما عداه من الأسئلة الأخرى – إن شاء الله – لأن من عمل بعلمه وفقه الله للاستفادة من شبابه وعمره. وأن يجمع المال – إن كان ذا مال – من حله. وينفقه فيما يوافق شرع الله. هذا مقتضى العلم.
ولأهمية هذا الجانب ذكر الأجري – رحمه الله – في كتابه (أخلاق العلماء) فصلاً بعنوان "ذكر سؤال الله لأهل العلم عن علمهم: ماذا عملوا فيه" ثم أورد بعض الأحاديث والآثار الموقوفة في هذا الموضوع ثم قال: (من تدبر هذا أشفق من علمه أن يكون عليه لا له، فإذا أشفق مقت نفسه، وبان بأخلاقه الشريفة التي تقدم ذكرنا لها والله الموفق لنا ولكم إلى الرشاد من القول والعمل)([74]).
وقد أعطيت هذه الثمرة رقماً مستقلاً لورود النصوص الخاصة بها، وإلا فقد يقال: إنها داخلة في عموم نفي الشقاء في الدار الآخرة عمن عمل بما علم كما تقدم.
4) الذي يعمل بعلمه يسلم من العواقب السيئة والنتائج الوخيمة والأوصاف القبيحة التي تنتظر من لا يعمل.
وقد رتب الله – تعالى – هذه الأمور على الإعراض عن التذكرة بآيات الله.
ومعلوم أن من لم يتذكر لن يصدر منه عمل بما يعلم ولن يقيم لآيات الله – تعالى – وزناً؛ لأن العمل بالقرآن هو العمل بالعلم حقيقة.
فلا أحد من الناس أعظم ظلماً ممن ذكر ووعظ بآيات ربه وهي القرآن ثم تولى وصد عنها. ثم هو ينسى ما قدمت يداه من المعاصي والكفر، مع أن الله تعالى لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه. قال تعالى: }ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه . .{ [الكهف: 57].
ومن النتائج السيئة للإعراض جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً كما قال تعالى مبيناً ما ينشأ عن الإعراض: }إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً{ [الكهف: 57].
ومن الأوصاف أن المعرض كالحمار قال تعالى: }فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة{[المدثر: 49]([75]).
إلى غير ذلك من الآيات التي اشتملت على بيان النتائج والأوصاف التي تلاحق المعرضين.
5) من عمل بعلمه أورثه الله علم ما لم يعلم([76]). وفتح بصيرته وأنار قلبه. قال – تعالى –: }والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم{[محمد: 17].
قال الشوكاني: (زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين. أي: والذين اهتدوا إلى طريق الخير فآمنوا وعملوا بما أمرهم به زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين([77]). قال - تعالى -: }ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيما{[النساء: 66، 67، 68].
وأما من لم يعمل بعلمه وأعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعاً لهواه. فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، وهو حري أن يسلبه الله ما علم، يقول – تعالى -: }فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم{[الصف: 5].
قال ابن كثير: (أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان . . )([78]).
6) العمل بالعلم من أقوى أسباب حفظه وبقائه، لتحوله إلى صورة عملية وواقع مشاهد، ولذا يستطيع كل واحد منا أن يكتب صفة الوضوء والصلاة والحج ونحو ذلك لأن هذا علم قد عمل به وتحول إلى سلوك واقعي فأصبح موصولاً بالذهن، مرتبطاً بالذاكرة، يستدعيه متى أراده.
يقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري – رحمه الله –: (فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخاً مستقراً في النفس، وذلك أن العلم يستحضره صاحبه في النفس مجملاً غير سالم من غموض أو إبهام. فإذا أبرزه بالعمل للوجود صار تفصيلياً جلياً واضحاً، وبكثرة التكرار للتلاوة ومداومة العمل يكون النظري منه بديهياً ضرورياً، فيثبت وحي الله بالقلب فلا ينسى، وأما مع هجران العمل به فإن صاحبه يصل به النسيان إلى حالة يساوي فيها من لا يعرفه بتاتاً والعياذ بالله)([79]).
وقد اهتم العلماء بموضوع حفظ العلم، والتحذير من نسيانه، وافردوا فيه المصنفات المستقلة([80]) وذكروا الأسباب التي تعين على حفظ العلم([81]) ولكن من أقوى وسائل حفظه العمل به، وقد ذكر ابن القيم – رحمه الله – أن من أسباب حرمان العلم عدم العمل به، فهو يقول: (السادس: عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه. قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به وقال بعض السلف أيضاً: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حلّ وإلا ارتحل. فالعمل به من أعظم أسباب حفظه وثباته وترك العمل به إضاعة له، فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل قال الله – تعالى -:}يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به{[الحديد: 28]([82]).
7) العمل بالعلم يهيأ للعالم مكانة مرموقة، ونظرة حسنة. وبه يكون قدوة طيبة، يؤخذ كلامه، ويوثق بفتواه. وكلما ظهرت آثار العمل على العالم أحبه الناس وتعلقوا به ورغبوا فيه وهذا مشاهد.
ولكن إذا رأوا العالم وقد ظهرت عليه آثار الانحراف والمخالفة لما علم به، وقعوا في حيرة بين القول والفعل. وراحوا يفسرون هذا الانفصام بين العلم والسلوك تفسيرات شتى. ومن ثم لا يثقون بقوله، ولا يقيمون وزناً لشخصه، وإذا كان العالم مرموقاً منظوراً إليه ولا سيما في بلده كانت المسؤولية أعظم لأنه متبع ومقتدى به.
قال ابن مفلح في الفروع: (وليحذر العالم وليجتهد فإن ذنبه أشد، نقل المروذي عن الإمام أحمد – رحمه الله – قال: (العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل). قال: وقال شيخنا – يعني ابن تيمية – رحمه الله (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه من جنس ذنب اليهود)([83]).
إن مخالفة تعاليم الدين ممن يقتدى به من أضر الأشياء على سنن الإسلام؛ لأن ذلك يؤدي إلى اقتداء العوام به فإنهم اتباع كل ناعق. والعالم إذا أظهر المعصية وإن صغرت سهل على الناس ارتكابها. لأن الجاهل يقول: لو كان هذا الفعل كما قال: من أنه ذنب لم يرتكبه. وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا([84]) وواقعنا اليوم يشهد بذلك في صور متعددة.
فليحذر العالم مثل هذه المزالق العظيمة التي يبوء بإثمها وإثم من اتبعه فيها إلى يوم القيامة. وقد قال النبي - r -: "من سن في الإسلام سنة سيئة يعمل بها من بعده، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"([85]).
وقد يكون عدم العمل بالعلم وسيلة للصدّ عن دين الله تعالى. فإن العالم إذا لم يوافق بين علمه وسلوكه يقف حجر عثرة أمام الدخول في الإسلام والتمسك بأحكامه وأخلاقه، ولا سيما من يحسنون الظن بهذا العالم لأنهم يسمعون كلاماً جميلاً ولم يروا شخصه، فهم في أشد الشوق إليه، فإذا رأوه مقتوه وقالوا: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)([86]) وربما كان ذلك ذريعة لسبّ الإسلام نفسه وتلك مصيبة.
(ومن هنا فالداعية بحاجة إلى تطبيق عملي لمبادئ الإسلام وأفكاره وسلوكه، لتكون حياته ترجماناً مبيناً لمنطوق الإسلام. وصورة كريمة لمعطياته)([87]) وعليه أن يكون قوياً بإيمانه على شهوته، قوياً على المجتمع الذي يجره إلى الانحلال، وينأى به عن تطبيق عمله على نفسه وأسرته.
وإن المطابقة بين القول والعمل أمر عسير غير يسير إلا على من وفقه الله إنه يحتاج إلى صلة دائمة بالله تعالى وإخلاص، ثم رياضة وجهد ومحاولة واستعلاء على الرغبات والشهوات، ومن ترك العمل بما علم فقد استسلم لشهواته وانقاد لهواه وهو على خطر عظيم.
(اسأل الله – تعالى – المبتدئ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمها علينا مع تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب علينا من شكره. الجاعلنا خير أمة أخرجت للناس أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه – وقولاً وعملاً يؤدي به عنا حقه. ويوجب لنا نافلة مزيدة . .)([88]).
عبدالله شعبان
عدد الرسائل : 181 العمر : 55 الموقع : apdallah_shapan@yahoo.com نقاط : 338 تاريخ التسجيل : 16/09/2009
موضوع: جميل جدا ومفيد وهادف الخميس 01 أكتوبر 2009, 12:50 pm
كان يجب ان نعلم المصدر لزيادة المعرفة والاطلاع على العموم جزاك الله خيرا