هناك مفهومان متداخلان يجب تحديدهما وهما التعليم والتربية. فالتعليم يستهدف غاية عقلية تتحقق بإكساب طالب العلم مجموعة من المعارف فى شتى المجالات فى الحياة. وهذه الغاية هى التى يمكن أن نطلق عليها " المعرفة من أجل المعرفة " وإذا تحققت فقد أدت المهمة التعليمية دورها الذى ينحصر فى تنوير المدارك وتثقيف العقول.
وتبقى بعد ذلك مهمة أخرى هى المهمة الحياتية التطبيقية أى توظيف هذه المعارف واستخدام هذه العقول فيما يعود على الإنسان المتعلم بالنفع فيسعد بحياته حين يسخر طاقاتها لخدمته, ويسيطر على كل مجالاتها بعقله واكتشافه.
وحين يصل الإنسان إلى هذه الغاية فإنه يشعر بنفسه وقد حقق ذاته وانتصر على ما حوله من مظاهر الطبيعة وسخر العلم الذى تعلمه فى تحقيق النفع الذى ينشده, وتلك هى الغاية التى يمكن أن نطلق عليها " المعرفة من أجل المنفعة ".
ولقد كانت الإحاطة التامة بالمعرفة هى الهدف الأسمى لدى فلاسفة التربية, ومما شجع على تأكيد هذا الهدف نشر الحركة العلمية والنفعية. ويمكن ترتيب أهداف التربية من حيث قيمتها للفرد والمجتمع على النحو التالى:
أولا: يجب أن تهدف التربية أولا وقبل كل شئ إلى تعليم الأفراد فى المحافظة على الذات والاستزادة من المعارف واستعمال العقل فى استيعابها والاستفادة منها.
ثانيا: يجب أن تمكن الفرد من كسب القوت.
ثالثا: يجب أن تعمل على بقاء الجنس والنوع, وذلك عن طريق تعليم الفرد القدرة على رعاية الأسرة والمجتمع.
رابعا: يجب أن تهيئ الفرد القيام بمهام الحياة الاجتماعية والسياسية
خامسا: يجب أن تزود الفرد بما يمكنه من التمتع بالتراث الثقافى للجنس البشرى من فن وعلم وأدب.
وواضح من هذه الأحداث التربوية الخمسة: أن الفرد هو محور التربية, وأن غاية هذه التربية فى مفهوما الأسمى أن تسعد هذا الفرد فى حياته, وأن تهيئ له كل الوسائل لتحقيق هذه السعادة بالتفاهم مع المجتمع واستغلال كل طاقات الحياة لخدمة الإنسان ومتعته ورفاهيته. وحين تتجرد هذه التربية وتصبح فلسفة مثالية فى نظر رجالها, فإن ذلك يعنى على أحسن الفروض أن نتابع السعادة فى الحياة لكل البشر على السواء. والسعادة فى أن يأكل ويشرب ويلبس ويتمتع بكل جوانب الحياة الرغدة المفيدة.
لقد أصبح من المسلم به فى هذا العصر الذى يموج بتياراته الفكرية المختلفة ومذاهبه الفلسفية المتباينة أن الإس لام دين تربوى . إن صح التعبير . وأنه جاء يخاطب الإنسان ويجرى معه حوارا طويلا يبدأ بتفاهمه على أصول العقيدة, ثم يحدد مسئوليته نحو نفسه ونحو مجتمعه, ثم يربط وجوده فى الحياة ومصيره فى الآخرة بخالقه. ولعل ذلك يتضح إذا تمثلنا الغاية من التربية الإسلامية للفرد المسلم فتصورنا أنها فى إطار من التوجه لتقوى الله تتحقق من خلال أهداف ثلاثة:
أولا: تنظيم علاقة العبد المخلوق بالله الخالق.
ثانيا: تنظيم علاقة الفرد الصغير بالمجتمع الكبير.
ثالثا: تحقيق توازن الإنسان توازنا نفسيا داخليا على ركيزة ثابتة من الإيمان.
وهذه الأحداث الثلاثة يجمعها القرآن الكريم فى مثل قول الله عز وجل فى آية واحدة.
1ـ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة.. .
2ـ ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك .
3ـ ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين .
لقد جاء الإسلام دينا له رسالة بين الناس ركزها القرآن فى جزء من آية واضحة هو قوله تعالى: " كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ". ويقصد بالنور هنا معنى واسع لكل لون من ألوان الاستقامة والخير وتحقيق الجانب المضئ فى نفس الإنسان.
فانطلاق الإنسان فى الحياة بغير غاية.... ظلام, فى حين أن إنصاف الضعفاء من الأقوياء..... نور. بل إن الارتباط بالدين والالتزام به من وجهة نظر الإسلام هى الحياة نفسها. فإذا كان قد شبه اعتدال أمور الإنسان فى ظل الدين بالنور, فقد شبه الدين نفسه بالحياة, وشبه الحياة من غير دين بالموت, فقال فى القرآن الكريم" يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ". وقال " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها " .
وإذا سار الإنسان على الطريق القويم للحياة, فإنه يجد الدين يشجعه على المضى بنجاح, ويثبت قدميه على طريق الحق, لا يصيبه وهن أو ضعف, ولا يثنيه عن المضى شئ . أى شئ . لأن له من دينه عاصما ودافعا .
أما إذا زلت قدمه فسقط فإنه سيجد الدين يأخذ بيده برفق, ويحيى نفسه بالأمل لأن الله سبحانه وتعالى كما وصف نفسه: " إن ربك واسع المغفرة. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة فى بطون أمهاتكم ".
وباختصار شديد فإن رسالة الإسلام هى تدريب النفس على تنمية المعنى الإنسانى فى الإنسان. "والدين بناء على ذلك هو الدافع إلى الحياة". وفى إطار تلك النظرة تتحدد علاقة الإسلام بالعلم والتربية على النحو السابق)
و الإسلام شريعة الله تعالى للبشر،أنزلها لهم ليحققوا عبادته في الأرض،وإن العمل بهذه الشريعة ليقتضي تطوير الإنسان وتهذيبه،حتى يصلح لحمل هذه الأمانة وتحقيق الخلافة،وهذا التطوير والتهذيب هو التربية الإسلامية.
فلا تحقيق لشريعة الإسلام إلا بتربية النفس والجيل والمجتمع،على الإيمان بالله ومراقبته والخضوع له وحده،ومن هنا كانت التربية الإسلامية فريضة في أعناق جميع الآباء والمعلمين،وأمانة يحملها الجيل للجيل الذي بعده،ويؤديها المربون للناشئين،وكان الويل لمن يخون هذه الأمانة أوينحرف بها عن هدفها،أويسيء تفسيرها،أويغير محتواها.
إنها تربية الإنسان على أن يحكّم شريعة الله في جميع أعماله وتصرفاته ثم لايجد حرجاً فيما حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،والإنسان معرض للشر والخسران لاينقذه منهما إلا الإيمان بالله واليوم الآخر،والعمل الصالح،والتعاون،والتواصي بالحق،والتواصي بالصبر على إحقاق الحق ومحاربة الباطل.
إن المصائب التي تنزل بالمجتمع الإنساني عامة،والكوارث التي تصيب المجتمعات الإسلامية،وظلم الإنسان للإنسان،واحتكار الدول القوية لخيرات الأمم الضعيفة،كل ذلك نتيجة لسوء تربية الإنسان،والانحراف به عن ابتغاء كماله،وعن فطرته وطبيعته الإنسانية.
ولما كان الإسلام هو المنهج الرباني المتكامل،المواتي لفطرة الإنسان،والذي أنزله الله لصياغة الشخصية الإنسانية صياغة متزنة متكاملة،وليجعل منها خير نموذج على الأرض،يحقق العدالة في المجتمع الإنساني،ويستخدم ماسخر الله له من قوى الطبيعة،استخداماً نيراً متزناً،لا شطط فيه ولاغرور،ولا أثره ولااستئثار،ولاذل ولاخضوع.
فقدم الإسلام منهجا تربويا متكاملاً مبنيا على الخضوع لله وحده وإخلاص العبودية له،والأخذ بكل ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
موقف الإسلام من العلم
اصطفى الله سبحانه وتعالى وأعد سيدنا محمدا لحمل رسالة الإسلام التى جعلها الله خاتم الشرائع السماوية, وخاطب بها البشرية فى مختلف العصور وسائر البقاع, وجعل أساسها وركيزتها الأولى العلم والخلق. ولذا فقد اختص الله رسول الإسلام بقوله وإنك لعلى خلق عظيم , وكانت أول آية من آيات القرآن تحث على العلم والتعلم, يقول جل ش أنه اقرأ باسم ربك الذى خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذى علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم . ولإشعار الناس بتقدير العلم والتعلم أقسم بأداة الكتابة والتعلم فى قوله جل شأنه " ن والقلم وما يسطرون " وقوله: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " .
والعلم فى نظر القرآن ليس خاصا بعلم الشرائع والأحكام من الحلال والحرام وحدها, بل التفقه فى كل ما يدعم الدعوة وكل ما يوسع المدارك ويبصر الإنسان بأمور الحياة, ويفيده توفيقا وقدرة على الاستفادة بكل ما خلق الله لإسعاد البشرية.
إن إدراك طبيعة الأرض وما يحيى مواتها ويضيف إلى عمارتها ويجعلها تنبت وتثمر وتعمر, علم مطلوب دراسته وتعلمه. وما يصلح الحيوان ويسخره لخدمة الإنسان واكتمال الانتفاع به, علم يدعو القرآن إلى تعرفه. وطرق الكسب المشروعة لتحصيل المال واستثماره على الوجه الذى ينظم موارده ومصادره ويمنع التحكم والاحتكار ويزيل الحقد والغل من النفوس, علم يجب التعرف عليه والتسلح به. والتعرف على الصناعات بأنواعها التى تيسر للإنسان سبل الحياة وتمكنه من الانتفاع بالقوى الكامنة فيما خلق الله, علم مطلوب منا الوقوف عليه. وما نحفظ به الأنفس من التهلكة بمقاومة الأمراض والعلل وطرق علاجها والوقاية منها علم يجب التزود به. وكل ما يمكن إعداده من قوى ندفع بها الأذى والعدوان ونرهب به من تحدثه نفسه بالعبث بالأمن والسلام, علم يجب التعرف عليه.
وبذلك كله كان العلم هو العنصر الأول من عناصر الحياة فى نظر الإسلام, وبه حارب الإسلام الجهل فى كل وكر من أوكاره وفى حديث لرسول الله e " أن من تعلم وعلم, علمه الله ما لم يعلم ", كذلك يقول الإمام الغزالى أحد كبار أئمة الصوفية 505 هـ " إن تعلم علوم الصناعات وكل ما ينهض بشئون الحياة يعتبر فرض كفاية حتى تكفى الأمة احتياجاتها من جميع ما تحتاج إليه ".
وقال الله تعالى " والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبرمن هنا وبالعلم وقوة العقيدة والعمل الصالح ظهر أجدادنا العرب المسلمون على مسرح التاريخ, وكان لهم بيان ووجود, وأصبحوا سادة العالم حينذاك, ذلك بالتحضر بالعلم والثقافة. ولقد جعل النبى e (ووجه أصحابه من بعده أن تكون أهدافهم فى هذه الحياة الإيمان والعلم والمعرفة والثقافة, لا يؤثرون على ذلك شيئا. يتبادلون ذلك ويعملون على ذيوعه ونشره لعمارة الأرض التى استخلفوا فيها.
لقد روت كتب السيرة أنه لما وقع فى أيدى المسلمين بعض الأسرى ممن يقرؤون ويكتبون, جعل الرسول فداء العاجز عن الفدية تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.
وروت كتب التاريخ أن هارون الرشيد إذا ما انتصرت جيوشه فى معركة يقصر طلبه عن تعويض خسائر الحرب على تسليمه نفائس الكتب حتى تترجم إلى العربية وينتفع بما فيها من معلومات. وقد سلك ابنه الخليفة المأمون هذا المسلك حتى قال إن الأسلحة العقلية التى يتسلح بها فى سبيل السلام وتدعيمه هى الكتب والمعلومات.
ولما أسر المسلمون الأولون عددا كبيرا من الصينيين وكانوا ذوى خبرة فى صناعة الورق خيرهم الحاكم بين الاسترقاق وبين تحريرهم بشرط تعليمهم العرب صناعة الورق. حتى تعلم المسلمون هذه الصناعة وأصبحوا فى عهد الخليفة المنصور المختصين بتلك الصناعة.
وقد قال الرسول e بأن العلم مطلوب من كل مسلم, فقد روى عنه أنه قال: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ". وقال: " طلب العلم عبادة, وأنه الفريضة بعد الفريضة المكتوبة ". وروى عنه أنه قال: " فضل العلم خير من فضل العبادة ". ووجه المسلمين إلى طلب العلم طوال حياتهم من المهد إلى اللحد. وأن يهاجروا فى سبيل طلب العلم ويسعوا وراء الحصول عليه مهما بعدت الشقة.
لقد حث الرسول e المسلمين على العلم, وغرس فى نفوسهم حب العلم واحترام العلماء, وعلمهم أن دم الشهداء يوزن يوم القيام ة بمداد العلماء, وعلمهم كذلك أن العلماء ورثة الأنبياء. فالأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكنهم ورثوا العلم.
وقد جعل النبى e (موضع الغبطة أن يضاف إلى العلم نشره بالتعل يم, وتوعد من يقصر فى نشر الثقافة والمعرفة إذ يقول: " ما بال أق وام لا يفق هون جيرانهم ولا يعل مونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم, وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظن. والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويأمرونهم ويفهمونهم, أو لي عجلن لهم الله العقوبة ".
ومن هذا يبين بوضوح مدى حرص الإسلام على العلم والتعلم, ومدى حرص سلفنا الصالح على التزود بالعلم والمعرفة ونشر العلم والثقافة.
وإذا كان الإسلام عقيدة خالصة تستقر فى القلوب فإنه مع ذلك أو قبل ذلك فيه مبادئ هادية لا تناقض العقول, إذ القلوب هى وعاء الإيمان, والعقول هى الوسيلة إلى الفهم والاقتناع, فإذا توفر الفهم واكتمل الاقتناع, أخذت المبادئ طريقها إلى القلب لتصبح عقيدة مستقرة.
ومن هنا كان خطاب الدين موجها إلى العقول أولا. يناقشها ويجادلها وينعى على أصحابها التقليد الأعمى والانقياد الموروث, أنظر قول الله سبحانه: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل الذين كف روا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون .
فالآية هنا توضح ضرورة التحرر العقلى, والانفلات من أسر العقائد الموروثة دون تفكير, وترسم صورة منفردة لأولئك الذين يلغون عقولهم, ويكبلون تفكيرهم فيجعلهم كالدواب "الصم البكم العمى".
ولما كان العلم نورا يضئ للعقل طريقه, حث الإسلام عليه وأمرنا بالتزود به وجعله زاد العقول. فرغب الرسول e فى الحرص على طلبه لعلو مكانته, فيقول فيما روى عنه "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رهنا بما يطلب, ولمداد جرت به أقلام العلماء خير من دماء بذلت فى سبيل الله".
لقد مثل الإسلام العلم بنور يمشى به صاحبه فى الحياة قاطعا سبيله فيها على بينة وهدى, ومثل الجهل بالظلمة التى تجعل صاحبها متخبطا فى سيره مضطربا فى سلوكه غير مهتد إلى طريقه وقد تدركه هلكتة قبل الوصول إلى غايته, كذلك يقول الله سبحانه: " قل هل يستوالذين يعلمون والذين لا يعلمون " .
وعلم الرسول e من ذلك أن دعوته تقوم على العلم والتبصير, وأنها تحث على التثقيف والتعقل فى كل أمر, وأنها تعتمد فى جملتها على مخاطبة العقل, وأنه لا حظ لجاهل فى الإسلام لأن الله جعل العلم حياة والجهل مواتا إذ يقول سبحانه: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به بين الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها " .
ولعل الحكمة فى تنبيه العقول وإيقاظها للتعرف على الخالق واضحة فى أول آية نزلت من القرآن كله "اقرأ باسم ربك الذى خلق ", فهى دعوة إلى القراءة وتنبيه إلى أن الله سبحانه هو الخالق الذى علم بالقلم. ولم تكن القراءة المقصودة فى الآية قراءة حروف وكلمات وإنما كانت تفكرا فى كتاب الكون المنظور الواسع للاستدلال على قدرة الله حتى ندين له بالولاء والطاعة.
وحسب الإسلام دعوة إلى العلم أن يكون القرآن نفسه هو المعجزة العقلية الكبرى التى تحدت بلغاء العرب قديما بسحر بيانها. ومازالت تتحدى العلم حديثا بدقة شمولها.. "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " .
فالإعجاز البيانى فى القرآن واضح فى فصاحة كلماته وبراعة نظمه وجزالة أسلوبه وبلاغته فى الدلالة على معانيه. وتحديه للعلم الحديث واضح فى اشتماله على أسمى التشريعات الروحية والأدبية والاجتماعية والسياسية والمالية التى كان ولازال بها أكبر الأثر فى إصلاح المجتمع الإنسانى واستقراره لبلوغها مرتبة الكمال التشريعى, ويتضح أيضا فى اشتماله على كثير من كوامن العلوم والمعارف التى كانت تجهلها الأمم ثم كشف عنها العلم فيما بعد ولازال يكشف عنها إلى اليوم, وسوف يظل يكشف عنها على مدى الدهر وإلى الأبد مازال الاجتهاد فى ما لا يمس النص سبيلا مقبولا .
التعليم فى الإسلام
يمثل التعليم فى الإسلام أعظم تجربة رائدة عرفتها البشرية فى سبيل بناء حياة فاضلة, وأقوم طريق أمام أبناء العالم الإسلامى اليوم لمواكبة ركب التقدم العلمى واسترداد سالف رسالتهم فى خدمة الحضارة الإنسانية. ذلك أن هذا التعليم استطاع أن يقضى على القطيعة الموهومة بين الدين والعلم. تلك القطيعة التى سلبت الإنسانية قديما. كما تسلبها اليوم . أسباب الطمأنينة والسعادة.
جاءت تعاليم الإسلام تنادى أن مصدر الحقيقة الدينية والعلمية إنما هو الله الواحد الحق, ومن ثم فالحق واحد لا يتعدد, وإنما تتعدد الأهواء والنوازع التى لا تسترشد بهدى الدين أو بنور العلم. قال تعالى: " فذلكم الله ربكم الحق, فماذا بعد الحق إلا الضلال . ودعم القرآن الكريم تلك السمة الجليلة التى اتسم بها التعليم فى الإسلام حين أكد الله سبحانه وتعالى بعث محمد (معلما وهاديا للحق, فقال تعالى " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويعلمكم الكتاب والحكمة, ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ".
وإذا كان الإسلام قد أنهى عملية القطيعة بين الدين والعلم, فإن الإيمان فى ظل الشعور الإسلامى إنما يربو ويرسخ بنشر التعليم بين البشر وإزاحة كابوس الجهل وظلماته عن آفاق بلاد مكبلة فى أغلاله. ويتضح الفرق بين التعليم فى الإسلام وغيره فى ظل الأديان الأخرى حين نرى ما بذله رجال الدين فى العصور القديمة والوسطى لاستبقاء الجماهير فى أغلال الجهل حين أحسوا أن سلطانهم إنما يزول بقدر ما تستنير الشعوب, وأن ظلهم إنما يتقلص بطلوع شمس العلم والمعرفة.
وأما الإسلام فيرى أن الاستزادة من العلم إنما تؤدى إلى تقوى الله وخشيته, وهى جوهر الإيمان وروحه, ذلك يتأكد من قول المولى:" إنما يخشى الله من عباده العلماء ". وأن الراسخين فى العلم إنما هم من الشهود على وحدانية الله سبحانه وتعالى وتفرده بالألوهية الحقة.
وبدأت مع هذا المفهوم السامى للتعليم فى الإسلام صفحة جديدة مشرقة فى تاريخ البشرية, استرد فيها الإنسان كرامته وشخصيته, وأدرك بها حقيقة رسالته ومهمته فى الوجود. فهو خليفة الله على الأرض, كما جاء فى قوله تعالى:" وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة ". ثم تأكدت خلافة الإنسان فى الأرض فى تعليم آدم, فقال تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها, ثم عرضهم على الملائكة, فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ", قالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والأرض, وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " .
وأوضحت تلك الآية الكريمة الإطار الشامل الذى اتجه إليه التعليم فى الإسلام. فالله سبحانه وتعالى خلق الكون أولا, ثم الإنسان ليكون خليفة الله على هذا الكون, ثم علم الإنسان الأسماء وعرفه على هذا الكون, ظاهره وباطنه. فخلافة الإنسان على هذا الكون هى مظهر كمال الكون, وأن الإنسان مأمور من الله سبحانه وتعالى بهذه الخلافة لعمارة الأرض ذلك بقدرته على أن يتعلم كل ما يدفع حياة التطور إلى الأمام. فالتعليم هو السبيل الموصل نظريا وعمليا إلى الكشف الدقيق عن أطوار الإنسان وأوضاعه فى الكون. قال تعالى: " قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ". فجعلت هذه الآية الكريمة من دراسة الكون طريقا إلى الإيمان, وجعلت الإيمان فى الوقت نفسه طريقا لفهم الكون وأسراره, بل جعلت أحدهما دليلا على الأخرى ومكملا , وشرطا لصحته.
وتتابعت الآيات الكريمة التى رسمت للتعليم فى الإسلام أمثل السبل لينهض الإنسان بخلافته على الأرض, واستثمار ما سخره له الله فيها. قال تعالى: " هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا , ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات, وهو بكل شئ عليم" . وقال تعالى:"الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم, وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار, وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار, وآتاكم من كل ما سألتموه, وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " .
واتجه التعليم فى الإسلام فى ضوء تلك الآيات الكريمة إلى إعادة بناء قوى الإنسان وصياغتها بما يحقق له "مجتمع خلافة الله فى الأرض " فأشار الإسلام إلى أن فى طبيعة الإنسان كل الاستعدادات اللازمة لحياة خلق من أجلها وتستمر مع حياة الإنسان وعلى امتداد مراحل نموه. ففى طبيعة الإنسان استعداد روحى من عطاء الله ومادى من مصدر خلقه, وذلك جاء فى قوله تعالى:" وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سواه ونفخ فيه من روحه . ومن ثم جاء التعليم فى الإسلام روحيا وماديا . جاء تعليما متكاملا يدعو إلى مراعاة متطلبات الروح, ويحث أيضا على الاهتمام بالتكوين البيولوجى للإنسان وصلته بالكون الذى يعيش فيه. فهو تعليم يوفر للإنسان السعادة فى الحياة الدنيا, ويكفل له الزاد للحياة الآخرة, الحياة الباقية.
وكفل التعليم فى الإسلام بذلك سبيلا أتاح للإنسان أن يعيش فى واقع مجتمع حى, ينتصر فيه البرهان الحسى على كل الخرافات والأوهام التى فرضتها عليه جهالات العصور القديمة والأديان الوثنية. فاليقينية العلمية صارت المحور الذى دار عليه ذلك التعليم الإسلامى فى شتى مراحله, إذ هى السبيل الذى تحررت به البشرية من سجون الوثنية ومن أغلال رجال الديانات السابقة على الإسلام. فانتهى بشروق شمس الإسلام عقم التعليم التجريدى القديم فى مجالات الكشف عن الحقائق والقوانين. وبدأ المفهوم الجديد للتعليم فى الإسلام يهدى الناس إلى مصدر كل علم, والقادر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى, مع الإيمان والتصديق فى قدرته على ذلك إذ يقول سبحانه وتعالى "ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء . وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو