(ففي الآية دليل على شرف العلم وفضله، وعلى شرف أهله وفضلهم على من سواهم، إذ لو كان أحد يعدلهم من غيرهم لقرن الله شهادته بشهادته كما قرن الله شهادة أهل العلم بشهادته – سبحانه وتعالى -. وفي هذا حض للمسلمين على تعلم العلم النافع، الموصل إلى الله، والهادي إليه)([1]).
وقال تعالى: ))قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)). [الزمر: 9]. والمراد العلماء العاملون كما قرره المفسرون كالألوسي وغيره. قال: (( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ )). فيعملون بمقتضى علمهم . . (( وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )). فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم. وذكر – رحمه الله – أن العلم الذي لا يترتب عليه العمل ليس بعلم عند الله تعالى([2]).
وعلى أي حال فالآية فيها تنبيه على شرف العلم وفضل العمل به.
وقال تعالى: (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )). [المجادلة: 11]. وهذا فضل عظيم وشرف كبير. فإن الرفعة تشتمل الرفعة المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت، وانتشار علم العالم واستفادة الناس منه.
والرفعة في الآخرة وهي رفعة حسية بعلو المنزلة في الجنة وهو دليل على كثرة الثواب
وقد جاء في صحيح مسلم أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر – رضي الله عنه – بعسفان(وكان عمر يستعمله على مكة. فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله – عز وجل – وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم – صلى الله عليه وسلم - قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين"(
وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ((وقل رب زدني علماً ((. [طه: 114].
وهذه الآية برهان واضح على فضل العلم، لأن الله – تعالى – لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم. والمراد العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف
وأما السنة فهي حافلة بالنصوص الدالة على فضل العلم، والحث على طلبه. فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " طلب العلم فريضة على كل مسلم"
كما بين – صلى الله عليه وسلم - مكانة طالب العلم فقال: " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع. وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"([8]). فهذا حديث عظيم، جليل القدر بين فضل العلم وشرف حامله من وجوه عديدة منها:
الأول: أن الله – تعالى – أثاب طالب العلم على سلوكه في الدنيا طريق العلم الموصل إلى الله – تعالى – وإلى رضوانه. أثابه الله عليه أن يسر له طريق الجنة مقصده وغايته.
الثاني: تعظيم الملائكة لطالب العلم وحبها إياه وحياطته وحفظه. ولو لم يكن لطالب العلم إلا هذا الحظ الجزيل لكفى به شرفاً وفضلاً.
الثالث: أن طالب العلم شبيه بالملائكة، فإن الملائكة من أنصح خلق الله لعباد الله، كما قاله بعض التابعين ولا ريب أن طالب العلم قد سعى في أعظم ما ينصح به عباد الله.
الرابع: أن جميع المخلوقات تستغفر له حتى الحيتان في الماء، لأنه لما سعى فيما به نجاة النفوس، جوزي من جنس عمله، وجعل من في السموات والأرض ساعياً في نجاته من الهلاك باستغفارهم له.
الخامس: أن العالم شبيه بالقمر الذي يضيء الآفاق يمتد نوره في أقطار العالم، أما العابد فشبيه بالكوكب الذي نوره لا يجاوز نفسه. وإن جاوزها فهو غير بعيد.
السادس: أن العلماء ورثة الأنبياء خير خلق الله. فهم أحق بميراثهم. وإذا كان الميراث ينتقل للأقرب فهذا تنبيه بأن العلماء أقرب الناس إلى الأنبياء، وهذه منقبة عظيمة.
السابع: أن العلم أعظم الحظوظ وأجداها، لأن نفعه يدوم في الدارينوالأدلة على فضل العلم وعظيم نفعه وشرف صاحبه كثيرة، ويكفي في فضله وشرفه أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الله – تعالى – قرن شهادتهم بشهادته على أجل مشهود وهو توحيده – سبحانه وتعالى -.
فعلى طالب العلم إخلاص النية – لله تعالى – فينوي بطلب العلم رضا الله – تعالى – والدار الآخرة، ورفع الجهل عن نفسه وعن غيره، وإحياء الدين، وإبقاء الإسلام، والله – تعالى – لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغى به وجهه.
قال ابن جماعة – رحمه الله -: ( حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله – تعالى – والعمل به، وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه وتحلية باطنه، والقرب من الله – تعالى – يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله، قال سفيان الثوري: (ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي )([10]).
وعليه أن يبادر العمر وزمن الشباب، ويفرغ نفسه لطلبه قدر استطاعته، ويسعى جهده لتحصيله، وليحذر الملل فهو مرض يصاب به عدد من المتعلمين ولا سيما في دروس المساجد.
وعليه أن يحفظ وقته ويقلل من العشرة فإن لها آفة عظيمة، وهي ضياع العمر بغير فائدة.
وعليه ألا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه .
وعليه أن يتواضع في طلبه، ويستفيد من أي شخص كان، وينتهز كل فرصة للاستزادة من العلم، حاملاً قلمه ودفتره، مسجلاً ما يلقى إليه لئلا يضيع وينساه.
وليعلم أن المعاصي والهموم وكثرة الاشتغال مما يعوق حفظ العلم.
وآداب العالم والمتعلم المشتركة والخاصة بأحدهما كثيرة جداً، لو اشتغلنا بذكرها لفات علينا المقصود وهو ما رسم على طرة الكتاب، فليرجع إليها في مظانها للعمل بها. فاقرأ كتاب (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم ) لابن جماعة وكتاب ( حلية طالب العلم ) للشيخ بكر أبو زيد. وغيرهما مما يعني بهذا الموضوع.
العمل بالعلم
من المؤكد أن المنزلة السامية، والثواب العظيم لطالب العلم، لا يكون إلا لمن عمل بعلمه. ومن هنا وجب إتباع العلم بالعمل. وظهور آثار العلم على مقتنيه، فالعلم إنما يطلب ليعمل به، كالمال يطلب لإنفاقه في طرق الخير، وإذا لم يتحول العلم إلى واقع ملموس يراه الناس فهو وبال على صاحبه، والجاهل خير منه.
يقول ابن جماعة – رحمه الله -: ( واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذي قصدوا به وجه الله الكريم والزلفى لديه في جنات النعيم. لا من طلبه لسوء نية أو خبث طوية أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب . . . )([11]).
ولما كان هذا الموضوع بمكان من الأهمية فسأذكر – إن شاء الله – النصوص الشرعية التي تؤكد على طالب العلم أن يكون عاملاً بعلمه، قائماً بحقوق الله وحقوق خلقه قدر استطاعته، وكذا النصوص التي تضمنت الوعيد الشديد للعالم الذي لم يستنر بعلمه. وأبدأ أول بالنصوص القرآنية ثم من السنة النبوية. ثم أذكر شيئاً من منثور الكلام ومنظومه.
ونحن نعلم أن الله – تعالى – ذكر في القرآن جملة من صفات اليهود وطبائعهم وأخلاقهم، لتحذير هذه الأمة من سلوك طريقهم، أو التشبه بشيء من أخلاقهم.
وهنا يذم القرآن اليهود على كونهم يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى البر ويهملونه.
قال ابن كثير – رحمه الله -: ( والفرض أن الله – تعالى – ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه.
وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم. ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من يأمرهم به ولا يتخلف عنهم . . )([12]).
الآية الثانية: قال – تعالى -: عن شعيب عليه الصلاة والسلام: ((وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ))[هود: 88].
وهذا الموقف من شعيب عليه السلام هو موقف الداعية المصلح الذي يبدأ بتطبيق ما يدعو إليه على نفسه. ويأخذها بالحزم، ويروضها على ما يريده الإسلام، وهذا هو الداعية الناجح الذي يقدم للناس أحكام الإسلام، وأخلاقه صوراً حية يرونها بأم أعينهم، لا أقوالاً رنانة وكلمات طنانة، ثم يرون الانفصام بين القول والسلوك. وهذا مذموم في نظر العقلاء. قال الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل
يقول سيد قطب – رحمه الله – ( أن الكلمة لتنبعث ميتة وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق، عندئذ يؤمن الناس ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يؤمئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة)([13]).
وقد اتفقت كلمة المفسرين على أن سبب النـزول أن رجالاً رغبوا في الإذن لهم في الجهاد وأحبوا معرفة أفضل الأعمال عند الله تعالى. فقد أخرج الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: " كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد، يقولون لوددنا أن الله – عز وجل – دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله – تعالى – نبيه – صلى الله عليه وسلم - أن أحب الأعمال : إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به".
فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الله – سبحانه وتعالى -: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)) ([14]).
ومع أن الجمهور يرون أنها نزلت في موضوع الجهاد وتمنيه. ولكن المعنى أشمل وأعم. فإن النصوص القرآنية أبعد مدى من الحوادث المفردة التي نزلت الآيات لمواجهتها، وأشمل الحالات غير الحالة التي نزلت بسببها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب – كما قرره الأصوليون – فيستدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله، سواء في الوعد أو العهد أو الأمر أو النهي.
ومن هنا فالآية درس للأمة الإسلامية، وتوجيهات ربانية، مبدوءة بلفظ محبب إلى النفوس، وثمنه التنفيذ والامتثال، بأن يكون كل فرد منا عند قوله، فلا يقول إلا حيثما يتبع القول بالعمل، وإلا فقد عرض نفسه لمقت الله – تعالى – الذي هو أشد البغض.
قال الراغب: ( المقت: البغض الشديد لمن تراه تعاطى القبيح).
يقول صاحب الظلال – رحمه الله -: ( إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة، وإلى حركة في عالم الواقع.
ومنهج الإسلام الواضح يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل . . )
إن العمل بالعلم من أهم صفات الداعية بعد الإخلاص وحسن القصد، فإن الداعية لا بد أن يكون على علم بما يدعو إليه من كتاب الله – تعالى – وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -. فإذا تحول هذا العلم إلى سلوك واقعي، يراه الناس، وثقوا به وبدعوته، بل أغناه هذا السلوك عن كثير وكثير من الكلام.
ولا يبعد أن يكون سبب إخفاق كثير من الدعاة فشلهم في تحويل علمهم إلى حركة في عالم الواقع يراها من يسمع كلامهم.
قال القرطبي – رحمه الله -: ( جعل الله ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن فقال: ((يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)) فأخبر تعالى أن من جاء من نساء النبي – صلى الله عليه وسلم - بفاحشة – والله عاصم رسوله – عليه الصلاة والسلام – من ذلك يضاعف لها العذاب ضعفين؛ لشرف منـزلتهن، وفضل درجتهن، وتقدمهن على سائر النساء أجمع، وكذلك بينت الشريعة في غير ما موضع، أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت، تضاعفت العقوبات، ولذا ضوعف حد الحر على العبد، والثيب على البكر . . )
وقال النسفي – رحمه الله -: [ يضاعف لها العذاب ضعفين) ضعفي عذاب غيرهن من النساء؛ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي - - ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالم أقبح ]