عدد الرسائل : 209 العمر : 52 نقاط : 576 تاريخ التسجيل : 25/01/2009
موضوع: التربية بالأحداث الجمعة 22 يناير 2010, 3:42 pm
إن اختيار الوقت المناسب من قبل المربي، في توجيه من حوله يسهل ويقلل من جهد العملية التربوية ويؤتي نتائج تربوية أفضل، فمعلم الأمة صلى الله عليه وسلم كان دقيق النظر إلى تحين الزمان والمكان المناسبين لتوجيه من حوله، والاستفادة منهما في تلقين أصحابه الأفكار البناءة، وتصحيح السلوك الخاطئ، وإحلال سلوك سليم[1]. وأكثر من يتعرض لهذه المواقف التربوية هو المعلم، فعليه أن يتبع أسلوب النبي المربي صلى الله عليه وسلم ويجعل للرحمة مكاناً في قلبه ويرحم طلبته حتى يستطيع برحمته وحكمته أن ينفذ إلى القلوب وتكون كلمته نافذة إلى نفوسهم، ويتحقق الهدف التربوي. فرحمة العباد تجلب رحمة الخالق تبارك وتعالى كما ورد في الحديث، عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا، فَأَرْسَلَ: "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، ولِلَّهِ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ " فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَأَقْسَمَتْ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَقُمْتُ مَعَهُ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ ابْنُ كَعْبٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيَّ، وَنَفْسُهُ تَقَلْقَلُ فِي صَدْرِهِ-حَسِبْتُهُ قَالَ:-كَأَنَّهَا شَنَّةٌ، فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَتَبْكِي؟فَقَالَ:"إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ[2]"* فرحمته صلى الله عليه وسلم لا تقف عند حد التأثير والتأثر، بل كان يراعي مصالحهم رحمة بهم ويوجههم إلى السلوك الذي يفيدهم .
ويكون تطبيق التربية وفقاً للأحداث وأمام الناس أحياناً حتى يدركها الناس جميعاً، فمن الأحداث ما هو خاص بين المربي وصاحب الشأن ومنها ما هو عام ويحتاج إلى جمع من الناس حتى يتم تطبيق التوجيه التربوي حسب الموقف. فعن جَابِرٍ قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟" فَقَالَ: لَا، فَقَالَ:" مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي" فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا"يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ[3]*. كما جاء في الحديث أن الرجل أعتق عبده رغم أنه فقير ومحتاج، وليس عنده ما ينفقه إلا هذا العبد، فأُخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فسأل الرجل: أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟" فَقَالَ: لَا، عندها كان التوجيه التربوي التطبيقي، حيث سأل الصحابة رضي الله تعالى عنهم من يشتري العبد، ففي هذا الموقف النبوي تظهر الحكمة ومعالجة الأمور؛ لأنه أراد أن يسد حاجة الرجل وأهله ثم يتصدق بما بقي من مال.فيظهر من الحديث دروس تربوية منها الابتداء في النفقة حسب الترتيب المذكور- النفس، الأهل، القرابة، فعن اليمين ثم عن الشمال- ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد، ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة، ولا ينحصر في جهة بعينها[4]، وأن النفس أولى من غيرها بالإحسان، وأن يفكر المرء قبل البدء في أي عمل ويختار الأفضل.
بهذا الأسلوب التربوي كان صلى الله عليه وسلم يبين أفضل الأعمال، ويوجه سيئها بطريقة لا تجرح المشاعر ولا تؤذي النفوس ويبين الأولويات والفضائل بطريقة مشوقة، مستغلاً المناسبات والأحداث في التعليم والتوجيه بأسلوب حكيم ومعاني بليغة، كما قال أنسy: كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ أَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الْكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ، قَالَ:فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ، فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةِ وَسَقَوُا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ[5]"* الحديث يجسد حال الصحابة في السفر، فكانوا على قسمين منهم الصائم ومنهم المفطر، فالصائمون أنهكهم التعب إضافة لحرارة الجو فكانوا لا يستطيعون العمل والحركة، أما المفطرون فقد شدوا أوساطهم للخدمة، وقاموا بالأعمال بكل نشاط واجتهاد، وفي هذا الموقف يُبين صلى الله عليه وسلم أي الفريقين أجره أفضل الصائم أم العامل، فقال: "ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ". إن الإسلام دين رحمة للعالمين، يفتح لهم آفاق الحياة على منهج سليم، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وضح صلى الله عليه وسلم أن التعاون في وجوه الخير له عظيم الأجر –فالله تبارك وتعالى يُحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه- كما أنه يغرس في القلوب حباً مستمداً من الأخوة الصادقة في الله. ثمرته الإحساس بمعاناة المسلمين والتخفيف عنهم . إن المدرسة النبوية هي مدرسة القيم والمبادئ، وإيجاد الثقة في النفس، بهذا الأسلوب درب محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه ليكونوا على قلب رجل واحد يساعد القوي الضعيف، ويتعاون المسلمون فيما بينهم، إن هذه التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم لن يدركوا أهميتها ويشعروا بفائدتها، إن مثل هذه التربية هي التي أخرجت الجيل الجاد العملي، الذي يعيش العلم والعمل معاً. حريصاً على المبادرة لفعل الخير . فالمفطرون أرادوا أن يعاونوا الصائمين فبادروا بالعمل، فكان أجرهم أعظم، من هذا نخلص إلى أن العمل من أجل الجماعة أفضل من العمل الشخصي ولو في عبادة، وهذا له هدف عميق وحث على قضاء حوائج الناس ومساندتهم في حاجتهم، ولا يتم هذا العمل إلا من خلال الإحساس بأحوال الآخرين، فالمربي الكريم صلى الله عليه وسلم يشعر بأصحابه ويأمرهم بالاعتدال في كل الأمور حتى في العبادات، فمع توجيهه لأصحابه في كــــــل موطن، إلا أن تربيته كثيراً ما تكون من خلال الأحداث، فكان يضع الناس في الموقع والميدان ويأتي التوجيه حينها، كما جاء في حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! تُوَاصِلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي" فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ:" لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ "كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا[6]*. إن مصدر الطاقة في الإنسان الغذاء فإذا بعُد عنه ضعف جسده وقل جهده، والإسلام دين قوة وعمل، لا يقبل بالأعمال التي تضعف الجسم، وتقلل من طاقته، فالخالق سبحانه وتعالى يعلم ما يتوافق مع عباده فيأمرهم به، وما يضرهم فينهاهم عنه، ولكن الإنسان أكثر شيء جدلاً، وهذا ما يتضح في الحديث السابق حيث نهى المربي الفاضل صلى الله عليه وسلم عن الوصال، -وهو صوم يومين فصاعداً من غير أكل أو شرب بينهما- رحمة بأمته وتخفيفاً عنهم، ولكن بعض الصحابة وجد في نفسه قوة فأراد أن يقتدي بالمصطفى ويواصل في صومه، فواصل بهم صلى الله عليه وسلم يوماً ثم يوماً لاحتمال المصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال، وهي الملل من العبادة والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من إتمام الصلاة بخشوعها وآدابها، وعندما مضى يومان من الوصال وهم قد ضعفوا وأفطروا عند رؤية الهلال، فقال لهم: "لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ " كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا، فالصحابة تعلموا درساً بالتطبيق الفعلي وكانوا عبرة لغيرهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر لهم أنه لا أحد مثله فقالr: "وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي"، أي يجعل الله فيّ قوة الطاعم الشارب[7]. إن أسلوب التربية بالتجربة والعمل من أنجح الأساليب التربوية نظراً لفعاليته، والإحساس به وممارسته، فالرسول صلى الله عليه وسلم استخدم هذا الأسلوب مع أصحابه حيث تركهم يمارسون ما ظنوا أنهم يستطيعون فعله، فالنفس تعيش حالة من التصميم حتى ولو كانت على خطأ، ولا يوقظ هذه النفوس إلا شيء من الإقناع، يردها للجادة، ويؤكد لها معاني الصواب. وفعلاً ثبت لهم بالتجربة خطأ ظنهم .
إن الأسلوب التجريبي أسلوب حضاري عصري ينادي به علماء التربية وعلماء النفس، إضافة لعلماء الطبيعية، مما يدل على أن أساليب النبي صلى الله عليه وسلم التربويه سبقت جميع الأساليب الحديثة ، فكانت تربيته عظيمة شامخة تتجسد فيها أفضل العلاقات الإنسانية، والقيم الإسلامية ، والزهد في الدنيا والإقبال على الله؛ لأن تربيته صلى الله عليه وسلم غير محددة بزمان أو مكان، فالمربي الناجح هو الذي ينتهز الفرصة المناسبة لتحقيق ما يريد الوصول إليه، سواء كان في المسجد أو السوق وغير ذلك .