سعادات حسين
عدد الرسائل : 305 العمر : 71 نقاط : 616 تاريخ التسجيل : 06/09/2009
| موضوع: لكي تحمينا الحقوق الإثنين 23 أغسطس 2010, 4:44 am | |
| لكي تحمينا الحقوق بقلم: د.فوزي فهمي يروي عن أنو شيروان ملك الفرس ـ أنه حينما بني قصره, حرص علي أن تتصل بالقرب من مجلسه سلسلة تمتد خارج القصر, بوصفها نقطة تواصل حقيقية بينه وبين كل صاحب مظلمة
فما إن يهزها الشاكي حتي يعلم الملك بأمره, فيدخله الحراس إليه ليبحث شكواه لإحقاق العدالة والإنصاف. وذات يوم,اهتزت سلسلة العدالة, فأسرع الحراس صوبها لاستطلاع القادم, غير أنهم فوجئواحينما رأوا حمارا يهز السلسة برأسه, فضربوه وطردوه. بعد وقت قصير عاد الحمار لثلاث مرات مكررا فعلته, وفي كل مرة يطرده الحراس ويضربونه. وعندما كان الملك يسأل في كل مرة عمن هز السلسلة, كانت إجابة الحراس بأن الفاعل حمار عجوز في المرات الثلاث. لاشك أن الملك كان مدركا أن الحمار لا يستطيع محو عجزه عن الكلام, لذا فقد أمر الملك حراسه بأن يساق الحمار إلي الحظيرة ليطعم ويمنح الراحة, وطالبهم بضرورة البحث عن صاحبه في الحال. بعد بحث مضن عثر الحراس علي صاحب الحمار, فسأله الملك غاضبا عن السبب في طرد حماره. جاءت إجابة الرجل لتفصح عن سياق إحساسه العام بأنه وحده مركز القرار الوحيد وفقا لمصالحه, إذ اعترف بأنه اشتري الحمار صغيرا, وأطعمه, واعتني به, وحين اشتد عوده استثمره كثيرا, وأنجز به كل أعماله, وعندما هرم وضعف جسده, وعجز عن أن يقوي علي حمل الأشياء, لم يجد بدا من طرده. غضب الملك وثار من كلام الرجل الجاحد, الذي يعكس فساد الطبع, بفرضه المعاناة وحرمان من الاستحقاق عندما تغيب مصالحه, بوصفها غاية كل الغايات, عندئذ أصدر الملك حكمه علي الرجل, بأن أعطاه مهلة أربعين يوما لتسمين الحمار, وأيضا تعليمه القراءة, تكفيرا عن ذنبه, مهددا إياه بسوء العقاب. يبدو أن حكم الملك في هذه القضية انطلق من منظورين, أولهما إقرار حق الحمار في الرعاية بعد عجزه, وثانيهما ضرورة أن يتخلي الرجل عن ذلك المفهوم الذي يخول له إلغاء مسئوليته عن رعاية من عجز عن الالتزام بما كان معتادا منه, وذلك حتي لا تشكل هذه السمة مبدأ عاما يمارسه الرجل في كل مستويات علاقاته, إذ ما من كائن علي الأرض دائم الثبات, بتأثير الزمن الكمي الوحيد الاتجاه, والدائم الحضور علي كل الكائنات, وغير القابل للاختزال, لذا فالعجز لا يعني استبعاد صاحبه من استحقاق الحياة. لا شك أنهما مسألتان منطقيتان, وإدراكهما يتطلب فهم معني الزمان, بوصفه أفقا لفهم الوجود, لكن وجه الطرافة في حكم الملك, هو شرط تعليم الرجل حماره القراءة. صحيح أن القراءة تعني للإنسان شحذ الانتباه, إذ بتراكمها تتنامي المعارف, وينبثق الوعي, ليس بالذات فقط, بل بالآخرين, وبكل دوائر الوجود, فهما, وإدراكا, وسيادة علي الأفعال, كما تحرر القراءة الإنسان من القيود, وتعزز لديه منطق التجاوز, كشفا لمسافات المعني, بوصف الإنسان هو الكائن المتطلع الباحث دوما عن معني لحياته وللوجود, والصحيح أيضا أن الملك علي يقين أن الحمار يفتقد الشرط الإنساني المعياري المؤهل للقدرة علي تعلم القراءة, ويدرك أنه لا يمكن إعتاقه من سياقه الذي يسكنه, والفرار منه ليمارس ما ليس حقيقته, وأن مطلبه لابد أن يثير الدهشة, لأنه خارج المعقولية والإمكان. لكن الصحيح كذلك أن صاحب الحمار في ظل استحالة مطلب الملك, لم يطرح أي استجلاء, أو استدراك, عن المطلب المنشود الموصد أمام عزم كل المحاولات, فتورط الرجل في موقف يشكل مأزقا محفوفا بكل الاستعصاءات, ويرشحه عجزه فيه لعقاب لا يعلم مداه. تري هل يحمل مطلب الملك دلالة مطمورة تتطلب الاستبصار؟. عاد الرجل إلي بيته وهو يعاني ثقل عجزه عن تحمل مسئولية تعليم الحمار القراءة, وتقولب إلي كائن مشحون بالتناقض الذي تجسد في حدين, هما: حد عجزه, وحد عدم البوح بعجزه. لقد تبدت حالته كمن اكتشف فجأة أنه في مواجهة واقع مضاد, يغتال قدرته, ويجعله ضحية عجز ذاتي, ليس مسئولا عنه, ولكنه مفروض عليه, ويقوده هذا العجز إلي مصير غير معلوم. لاشك أن قرار الملك قد أخرجه من ساحة مصالحه الذاتية التي تحكم رؤيته للعالم من حوله, وأجبره أن يمعن في النظر في سواه ممن يحيطون به, ليدرك ما فيهم من حدود الفروق والتماثل معا. صحيح أن الرجل كان مدركا للفرق بين الإنسان والحمار في عدم قدرته تعلم القراءة, لكن هل صحيح أنه أدرك حد التماثل بينهما؟ لا خلاف أن الرجل تبددت أكبر إمكاناته حين صمت أمام قرار الملك عن إعلانه أن تعليم القراءة للحمار أمر محال, وذلك وفقا لنظام الكون الذي جعله كائنا مغايرا للإنسان في خصائصه, إذ هو لا يشبهه, فهو لا يعقل ومقصي اللسان, ومبعد عن كل ما له علاقة بتكوين المعارف, ومحدود الوعي, وأن عجز الرجل عن تعليمه أمر مشروع في مواجهة نظام حاكم لكل كائنات الكون, لا يمكن استباحة شروطه. تري هل أدرك الرجل النظام الكوني الذي يحكمهما معا, ويجعلهما متماثلين أمامه؟ هل تمعن الرجل الحمار, ليس بوصفه شيئا, بل كائنا؟ هل أدرك الرجل أن علاقته بالحمار قد انقلبت فيها الأدوار, وأصبح أمامه هو العاجز عن تحمل مسئولية تعليمه, والعاجز أيضا عن البوح بعجزه؟ كان للرجل ابنة ذكية ألمعية, أثارها حزن أبيها وحيرته, فسألته عن سبب كربه, فأخبرها بحكايته. بالطبع اكتشفت الابنة عدم معقولية مطلب الملك, وانشغلت بفهم دلالته, وراحت تفكر بالكشف عن المعارف التي من خلالها يمكن أن تتدبر مخرجا لأبيها من مأزقه. طمأنت أباها بثقة بالغة, وطلبت إليه أن يشرع في تسمين الحمار, وأن يدع لها مشكلة تعليم الحمار القراءة. ولأن وعد الابنة لم يكن كافيا في مواجهة حقيقة كونية يخضع لها الحمار, لا يفيد معها تكرار المحاولة لإحداث قفزة ينتقل الحمار بها من وضعيته وخاصيته, لتحل محلها خاصية أخري مغايرة, لذا استغرب الرجل من كلام ابنته, مستنكرا, ساخرا من ثقتها. لكن الابنة ضخت في يأسه فيضا من الطمأنينة, يفسح حيزا لخلاصه المحسوم من مأزقه, دون الخوض في تجاوز الحقيقة الكونية الحاكمة للحمار. وانطلاقا من قلق الرجل علي مصيره, تعايش مع وعد ابنته, وانخرط في علف حماره كي يسمن ويمتلئ جسمه في المهلة المحددة, تاركا لابنته مهمة تعليمه القراءة. انطلق فهم الابنة للمخفي في قرار الملك من يقينها القاطع أن الملك علي علم قاطع باستحالة تعلم الحمار القراءة, فأعادها ذلك إلي الأصل الظاهر لمطلب الملك المتمثل في إطعام الحمار, وهو ما يتبدي ظاهرا في تسمينه, أما المطلب الموازي له, بتعليمه القراءة, تكفيرا عن ذنب إهماله وطرده, فهو مطلب يبطن معني مضمرا يعد امتدادا للمطلب الأصلي الظاهر, من حيث إن التعليم يتطلب زمنا, وجهدا, وبذل محاولات يتجلي المضمر من خلالها بتأسيس علاقة اهتمام وعناية, تعمق قناعة المسئولية عن الحمار, بوصفه كائنا, وليس شيئا. صحيح أنه لن يتعلم القراءة, لكن الصحيح أن زمن هذه العلاقة لا بد أن يتبدي واضحا من خلال آثاره كشرط حاسم, وتلك هي المعضلة التي رهانها إثبات إتمام تلك العلاقة, لذلك باشرت الابنة إنجاز المطلب المضمر بتأسيس تلك العلاقة التي لا تنفصم عن المطلب الأصلي الظاهر. أحضرت الابنة كتابا نثرت علي الصفحة الأولي منه بعضا من الشعير, فأكلها الحمار, وفي اليوم التالي نثرت الابنة الشعير علي الصفحتين الأولي والثانية, وراحت تراقب الحمار, فالتهم شعير الصفحة الأولي, ثم قلب الصفحة بلسانه ليأكل شعير الصفحة الثانية, وفي اليوم الثالث نثرت الشعير علي ثلاث صفحات, وراحت تزيد بنثرها للشعير في كل يوم علي صفحة جديدة, تردفها بصفحة أخري إلي أن ختمت الكتاب كله, واعتاد الحمار لزمن ـ بطريقة ميكانيكية ـ ممارسة تقليب صفحات الكتاب كل يوم بلسانه ليأكل الشعير, وتجلي الظاهر أن الحمار كمن يقرأ الكتاب. بعد انقضاء المهلة المحددة, انطلق الرجل بحماره إلي الملك الذي سر لرؤية الحمار سمينا, ثم سأل الرجل عن مطلبه الثاني بتعليمه القراءة, علي الفور فتح الرجل كتابا كبيرا أمام الحمار الذي اعتاد لزمن تقليب أوراق الكتاب ليلتهم الشعير من بين صفحاته. صحيح أن الكتاب هذه المرة كان خاليا من الشعير, لكن لأنه كان كبيرا, وهو ما يعني أنه مملوء بالشعير, لذا راح الحمار بحثا عن الشعير يقلب أوراقه واحدة إثر أخري بلسانه, بعد أن يشم كل صفحة, ويحدق بها حتي أنهي تصفح الكتاب كله, سر الملك وأعجب بصاحب الحمار, لا شك أن الملك رغم القرائن الظاهرية في المشهد الذي جري أمامه, كان علي يقين من عدم قدرة الحمار علي القراءة, إذ مطلبه بتعليم الحمار القراءة, كان محض مجاز عقلي, أسند فعل القراءة, الي غير ما له علاقة به, مستهدفا استجلاب علاقة العناية والرعاية التي تتسم بها عملية التعليم, ليصبح الحمار مشمولا بها, وعلي الجانب الآخر, أدرك الملك أن المعني المضمر بمطلبه قد جري فك شفرته, ذلك أن ممارسة الحمار مع الكتاب, تؤكد أنها جاءت نتيجة تدريب وتعليم علي امتداد زمن علاقة اعتناء ورعاية, لذا سأل الملك الرجل عن سر ما جري, فقص الرجل ما حدث مع ابنته, فأثني عليها الملك ومنحها جائزة, ثم عفا عن الرجل, موصيا إياه بدوام تمديده الرعاية والعناية, محذرا من معاودته طرد الحمار ثانية. هذه واحدة من الحكايات الشعبية الفارسية القديمة التي جمعها أبو القاسم أنجوي الشيرازي, وتحمل عنوانا هو الإصرار والتكرار يعلم الحمار, لقد جسد الوجدان الشعبي بحنكته في هذه الحكاية, حالة من يلحق به عجز, ولا يستطيع البوح به, فكشف عن مدي معاناته من عدم ضمانه حصوله علي استحقاقه في الحياة, وذلك بطرده الي العراء ليموت جوعا نتيجة جموح المصالح الفردية, وضلالات السلوك, ولا شك أن المسكوت عنه في الحكاية الذي تصدح به دلالاتها هو الإنسان, عندما تتفكك في مجتمعه منظومة أخلاق العناية, بوصفها حاضنا لأفراده وشأنهم الإنساني, وبرغم قدم الحكاية, فإنها تتماس وتتواصل مع أحدث قضايا عالمنا المعاصر المطروحة منذ ثمانينيات القرن الماضي, بما يعرف بـ أخلاق العناية صحيح أن الحكاية القديمة لاذت بالإكراه, واحتمت بالإلزام في فرض العناية, لكن الصحيح أن أخلاق العناية المعاصرة يجري التعامل معها, بوصفها قيمة يعتنقها الناس طواعية, وليست وسيلة لتحقيق رغبات ذاتية, ومصالح شخصية, أو أنها محض تحالفات ظرفية, بل بوصفها قيمة مركزية, وجزءا من تكوين هويتهم التي تتجلي في علاقاتهم, تدعيما لمعني المواطنة, وتعزيزا للمشاعر الإنسانية, والاهتمام المشترك, توسيعا لدوائر الاكتراث لدي الناس بعضهم ببعض, حتي لا يصبح الانسان علي أخيه الانسان ذئبا ضاريا, إن الكاتبة الأمريكية فرجينيا هيلد في كتابها المتفرد عن هذا الموضوع, الصادر عام2006 بعنوان أخلاق العناية, تؤكد أن علي المجتمع أن يعترف بمسئولياته نحو الأطفال, وأن يسعي الي أفضل تربية ممكنة, وأن علي الأثرياء أن يعترفوا بمسئولياتهم في تخفيف عبء الجوع والحرمان في مجتمعاتهم, ثم تطرح سؤالا: تري هل من الواجب تعليم الحقوق لكي نعطي الحقوق فرصة لحمايتنا؟
| |
|