عدد الرسائل : 209 العمر : 52 نقاط : 576 تاريخ التسجيل : 25/01/2009
موضوع: النقلة التربوية للجيل الأول الإثنين 17 مايو 2010, 1:43 pm
كيف انتقل ذاك الجيل هذه النقلة؟
هذا سؤال عريض تطول الإجابة عنه، لكني أشير هنا إشارة سريعة، كانت من أهم العوامل وراء هذه النقلة العظيمة: العناية بالإيمان والتركيز على التغيير الداخلي ابتداء، إن التربية التي تتوجه إلى مظاهر السلوك البارزة أمام الناس، تربية قاصرة وتربية لا تستطيع أن تقف أمام السيل الجارف من المؤثرات، إنها تربية تعالج القشور وتغفل عن اللباب، إنها تعالج مظاهر المرض وتغفل عن أصله وجوهره، والبيت الذي يعاني من خلل في أساسه لا يمكن أبدا أن يخضع إلى الترميم والتحسين. لقد حاولت أقوى أمة في عالم القوة المادية أن تمنع الخمر وقامت بسن تشريعات وقوانين كثيرة، استنفرت طاقتها، ثم بعد سنوات أعلنت عجزها وفشلها، لماذا فشل أولئك في حين أن هذه الأمة لم تحتج إلا إلى آيتين تنزل فيخضع الناس ويريقون الخمر من بيوتهم؟ وقل مثل ذلك في المخدرات والتحلل الجنسي والشذوذ الأخلاقي. لقد فشلت لأن التربية المعاصرة اتجهت إلى المظهر دون الحقيقة،ولو اتجهت التربية إلى بناء الإيمان في النفوس لحققت هذه الأهداف التي تتطلع إليها.
ومن عوامل النجاح: أن التربية كانت تتم من خلال الميدان، ومن خلال العمل والتطبيق؛ فالجيل الذي تربى على هذه الرسالة لم يكن يستمع إلى التوجيهات أو تلقى إليه المواعظ والكلمات فقط، إنما كان يربى من خلال العمل والميدان والقدوة والممارسة، كان النبي صلى الله علية وسلم يصاحبهم ويصلي معهم ويذهب معهم، ويعايشهم السراء والضراء. وحين نتأمل سؤالا جديرا بالتفكير، كيف نجح النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته ودعوته في حين لم ينجح الحنفاء الذين كانوا على التوحيد؟ إن هذا الحديث إنما هو لبعث الأمل في نفوس سيطر عليها اليأس من التغيير والإصلاح، أسأل الله أن يجعلنا من حملة الرسالة والدعاة إلى الإصلاح؛ إنه سميع مجيب.
للأعلى
مدخل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد.
مدخل: فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة عدل وصدق أن خير الناس هم القرن الذي بعث فيه صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم؛ فخير القرون بإجماع سلف الأمة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم من تلاهم بعد ذلك من القرون، وما يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه. كان هذا القرن يعيش في جاهلية وضلال وفي بعد عن دين الله تبارك وتعالى، فجاء الله عز وجل بهذه الرسالة وأرسل هذا النبي الذي اصطفاه واختاره تبارك وتعالى؛ فأخرج هذا الجيل من الظلمات والجاهلية إلى أن يحمل هذه الصفة ويستحق هذه الشهادة وهذا الثناء؛ فيأتي الثناء على هذا الجيل في كتاب الله تبارك وتعالى كثيراً وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، و تجمع الأمة على أن من سلط لسانه بالنقد والتجريح لهذا الجيل المبارك، فقد أتى بدعة وفرية وانحرف عن منهج الناجين المنصورين إلى قيام الساعة . واليوم والأمة تعيش واقعاً بعيداً عن شرع الله تبارك وتعالى يعاني من صور وألوان التخلف والانحطاط في كل جوانب الحياة، ويشعر الغيورون والمصلحون وهم يتلفتون ذات اليمين وذات الشمال يتأملون في واقع الأمة، يشعرون أن مسافة الإصلاح بعيدة، وأن الجهد المطلوب للتغيير جهد ضخم، وربما أدت هذه النظرة السريعة إلى الإحباط واليأس، والشعور بأن حجم الفساد يستعصي على الإصلاح، وأن حجم التخلف لا يمكن أن تقوم به هذه التربية، ومن هنا تتنوع ردود الفعل لأمثال هؤلاء اليائسين، منهم من يبحث عن منهج بديل يتمثل في منهج متسرع يبحث عن التغيير خلاف المنهج الذي سنه وشرعه الله، لأنه يرى أن هذا الفساد الضخم في واقع المسلمين سواء في الجهل بالاعتقاد أو الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي أو ما يتعلق بالتخلف المادي الذي تعاني منه الأمة اليوم حتى أصبحت في ذيل القائمة، يشعر أن هذا الواقع يستعصي على التربية، وأنه لا يمكن بحال أن يغير هذا الواقع بهذا الجهد التربوي، فيرى أنه لابد من وسائل وأساليب أخرى. بل قد يشعر المرء من هؤلاء أن جانبا واحدا فقط من هذه الجوانب والأمراض التي تعاني منها الأمة اليوم لو وظفت الجهود من أجله لما استطاعت القيام بأعبائه، فضلا عن الإصلاح والتغيير الشمولي الذي تتطلع إليه الأمة، و قد يصيب هؤلاء يأس قاتل فيتقاعسون عن العمل والإصلاح، ويرون أن السيل قد جرف الجميع وأنه لا سبيل للمرء إلا أن ينجو بنفسه، وهي اليوم فكرة تسيطر على كثير من المسلمين بل على كثير من الأخيار والغيورين، وإن كانوا لا يجرؤون أن يقولوا هذه المقولة؛ لأنهم يعلمون أنها تخالف سنن الله عز وجل وتخالف المقطوع به مما جاءت به النصوص الشرعية التي تُحمِّل الناس مسؤولية التغيير والإصلاح، إن كان هؤلاء لا يجرؤن على التفكير بهذه الصورة والتصريح بهذه الفكرة، إلا أنهم يستبطنونها ويحملونها؛ فلسان حالهم يعبر عن اليأس القاتل. وحين تتحدث أمام أمثال هؤلاء عن بشائر الأمل وعن هذه اليقظة والصحوة المباركة يفاجئونك بفتح الصفحة الأخرى من واقع الأمة، وفي الحديث عن الجهود المستميتة لأعداء الأمة، والتي أصبحت اليوم عيناً ترصد كل محاولة تقوم بها هذه الأمة ويسعى بها المصلحون ليقظتها لأجل أن يئدوا كل جهد للتغيير . إن هذا المنطق حين يسيطر على تفكير فئام من المصلحين فإنه سيعوق ويؤخر الجهود، ومن ثم كان لابد من حديث يبعث على الأمل ويعيده للنفوس، واليائسون مهما عملوا لن يحققوا أهدافهم لأنهم يعملون وهم ينتظرون الفشل . إنه لا ينجح في العمل إلا أولئك المتفائلون الذين يدفعهم التفاؤل والشعور بأنهم سيحققون أهدافهم . وهذا الحديث له جوانب شتى منها الحديث عن النصوص القطعية بالكتاب والسنة والتي تدل على أن المستقبل والنصر والعزة لهذا الدين . وهو حديث مهم لكن ليس هذا مكانه . ومنه الحديث عن هذا النموذج وإبراز هذا النموذج الحديث عن النقلة التربوية للجيل الأول جيل خير الناس .حين جاء النبي في ظل واقع يعاني من أبشع صور الانحطاط والفساد والتخلف، فانتقل هذا الجيل تلك النقلة البعيدة العظيمة . إن قراءة سيرة هذا الجيل والتأمل فيها وإدراك هذه النقلة العظيمة مما يبعث على الأمل، ويزيل اليأس عن القلوب، ويشعر الناس أنه كما غيرت الأمة وكما انتقلت من ذاك الواقع البئيس فإنها بإذن الله ستنتقل، وقد وعد الله عز وجل -وهو عزوجل لا يخلف الميعاد - فقال: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). فالله تبارك وتعالى لا يغير ما بقوم من صلاح وخير إلى فساد إلا حين يغيرون ما بأنفسهم، وكذلك لا يغير ما بقوم من فساد وسوء إلى صلاح وخير حتى يغيروا ما بأنفسهم . إن هذه السنة الربانية تعني بمفهومها أن الناس حين يغيرون ما بأنفسهم ثم يسعون للتغيير، فإنه سيتحقق التغيير بإذن الله . وقد جعل الله عز وجل مسؤولية التغيير على أيدي الناس (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل فلن يضل أعمالهم) (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) . إننا حين نريد أن نتحدث عن تربية خير الناس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فإن الحديث يطول، ولن نستطيع أن نلم بأطرافه وزواياه في مثل هذه الساعة، لكننا نريد أن نركز في حديثنا على هذه النقلة، كيف تحققت وكيف تغير المجتمع من ذاك الواقع المظلم المنحط إلى أن أصبح الاقتداء به والتأسي به والتشبه به دليل على الهداية بإذن الله عز وجل، والانحراف عنه دليلاً على الضلال والغواية؟ لقد أرسل الله النبي صلى الله عليه وسلّم في مجتمع يعاني من الجاهلية والضلال، وقد صار الناس كما وصفهم صلى الله عليه وسلّم (إن الله نظر إلى الناس فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، إنه أُرسل في أمة قد مقتت، وأمة قد حق عليها الضلال والغواية، ولم يعد لتلك الأمة من أهل الهداية والخير إلا أفراد معدودون كانوا يسمون الحنفاء . وحين تقرأ في السيرة وتقرأ الحديث عن الحنفاء . فإنك تجد أهل السير يسمون الحنفاء بأسمائهم مما يدل على أنهم فئة محصورة وعدد قليل في خضم ذلك المجتمع الضال المنحرف. وحين نتحدث عن جانب واحد فقط من جوانب التخلف والانحطاط التي كان يعاني منها العرب في جاهليتهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلّم فإن ذلك وحده يكفي شاهداً لموضوعنا، لكننا سنطوف هنا وهناك ونأخذ شواهد من جوانب شتى في ذلك المجتمع، كلها تنطق بهذا الإنجاز التربوي الذي تحقق على يد ذلك الجيل وذاك الرعيل الذي اختاره الله تبارك وتعالى، ليكون قدوةً للناس: قدوة في العمل، والسلوك، والاعتقاد، والتعبد لله تبارك و تعالى، وقدوةً في منهج الإصلاح والتربية والتغيير.
للأعلى
الجانب الديني
كان الناس قد انسلخوا من دين الله تبارك وتعالى وجاهروا بالشرك الصريح، وصاروا لا يعرفون الله عز وجل إلا في وقت الشدة، فإذا ألمت بهم شدة وأدركتهم الخطوب وضاقت بهم الأبواب لجؤوا إلى ربهم تبارك وتعالى فدعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون! وهذا عنوان الاستهزاء والسخرية برب العالمين تبارك وتعالى، إنه دليل على أن قضية الشرك في عبادة الله تبارك وتعالى كانت ترتكب عند هؤلاء عن عمد وسبق إصرار، فهاهم حين تدلهم بهم الخطوب وتضيق بهم السبل يعلنون التوحيد لله تبارك وتعالى . وحين سأل النبي صلى الله عليه وسلّم أحدهم قال:" كم إله تعبد اليوم؟" قال سبعة: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: "فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟" قال الذي في السماء، كان أولئك كما حكى أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه : كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من التراب وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها. إن هذه قيمة الإله عند أولئك، الإله هم الذين يصنعونه، حينما يأتي أحدهم إلى الصحراء يبحث عن حجر ليعبده، فيأتي فيختار أربعة أحجار، فيبحث عن أحسنها وخيرها، فيجعله إلهاً له فيعبده ويسجد له ويركع له ويعلق مصيره وحياته به، ثم يأخذ الثلاثة الأخر فيجعلها أثافي لقِدْره؛ فيضع قِدْره عليها ويشعل تحته النار! إن إلهاً يستوي مع حجارة تحمل قِدْراً ويشعل عليها النار لإله لا قيمة له، ومع ذلك أصبح يُسيِّرحال هؤلاء ويعلقون مصيرهم وحياتهم في دنياهم وآخرتهم بهذه الحجارة التي هم يختارونها. وربما كان إلهاً مصنوعاً مما يؤكل ويطعم، فتلم بهؤلاء مجاعة فيشعرون أن المحافظة على بقائهم خير من بقاء إلههم فيأكلونه، كما يحكي الشاعر مصوراً حال قبيلة من تلك القبائل:
أكلت حليفة ربها زمن التقحم والمجاعة * لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتباعة
نعم إن إلهاً يأكله هؤلاء إذا جاعوا لإله لا قيمة له ولا وزن له، ومع ذلك كانت هناك الطواغيت الكبرى، كانت هناك اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى (أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى) كان هناك ود وسواع وإساف ونائلة، كانت تلك الأصنام التي تصنع لها البيوت ويحج إليها الناس ويسعون إليها وتنذر لها النذور وتقدم لها القرابين، و يستقسم بها أولئك ويحلفون بها ويعظمونها ولهذا كانت يمينهم واللات والعزى. إن هذه الصورة العجيبة من خضوع هؤلاء لآلهة يصنعونها وآلهةً ربما يأكلونها إذا جاعوا، لتدل على فطرة العبودية أصلاً لدى البشر، وأن البشر مفطورون على العبودية والذل والخضوع، فإن لم يعرف البشر إلههم الحق ويتعبدوا إليه فسيتعبدون لإله باطل، بل إله يصنعونه وهكذا خلق الله عز وجل الإنسان عبدا لاتستقيم حياته إلا بالعبودية والذل والخضوع، فإما أن يذل ويخضع ويعبد ربه تبارك وتعالى أو حتماً سيذل ويخضع ويتعبد لغير الله عز وجل . وكان أولئك يشركون بالله عز وجل شركاً من نوع آخر في التشريع والتحليل والتحريم، فكانوا يتخذون أحكام الله هزوا، فيبيحون ويحرمون، فجاء القرآن مصرحاً في الحديث عن أن هذه من صور الشرك بالله تبارك وتعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءً عليه) كان هذا شأنهم يعتدون على حق الله عز وجل في التشريع فإن الله عز وجل كما قال عن نفسه: ( فاعبده وتوكل عليه) وقال عز وجل: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)لهذا لا فرق بين من احتكم إلى غير شرع الله وبين من عبد غير الله عز وجل فقد جمعهما تبارك وتعالى في آية واحدة ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) وتوعد القرآن المسلمين حين يستجيبون لطريق أولئك في التشريع والتحليل والتحريم والحكم بغير شرع الله عز وجل، توعدهم أنهم إن فعلوا شيئاً من ذلك ولو في قضية واحدة أنهم سيقعون في الشرك ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) فلئن أطاع المسلمون المشركين في هذه المسألة وهذه القضية المعينة؛ فاستباحوا هذه الميتة التي حرمها الله عز وجل فهم مشركون بنص القرآن. ويأتي التأكيد لهذا الحكم بحرف التوكيد (إنكم) ثم يأتي أيضا باللام التي تدل على التأكيد (ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون) لئن أطاعوهم ليس في أكل الميتة، إنما في استباحة الميتة واعتقاد أن الميتة وقد حرمها الله عز وجل حلال. ومن اعتدائهم على حرمات الله عز وجل أن يعتدوا عليها في الأشهر الحرم فيقول تبارك وتعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله). ومن صور الشرك والتشريع لديهم: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وهي كلها خرافات لا تعدوا أن تكون من نسيج عقلية أولئك المشركين الضالين الزائغين عن منهج الله تبارك وتعالى، هكذا كان أولئك في ذاك الوقت وفي ذاك الزمان، هذه نظرتهم للإله وهذا منهجهم في التشريع والاحتكام. ثم بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلّم فيأتي أحدهم أمام النجاشي ليقول: إنا كنا قوما نأكل الخنافس ونأتي الفواحش ويقتل بعضنا بعضاً حتى بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم . ويأتي أحدهم رستم ليقول له: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ما هي إلا أيام وقد حمل هؤلاء الرسالة، وعمت الهدايةُ الجزيرةَ كلها بعد ذلك وأشرق فيها النور، وصارت كلها خاضعةً لله تبارك وتعالى معلنة التوحيد، وانطلقت سيوف الموحدين لتطفئ نار المجوسية وتكسر صليب النصارى، وتنطلق هنا وهناك حتى كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الذين صحبوه، تحكى أخبارهم هنا وهناك؛ فابن عمر –رضي الله عنهما- يصل إلى أذربيجان وأبو أيوب الأنصاري –رضي الله عنه- يدفن تحت أسوار القسطنطينية، ويصل سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في المشرق إلى بلاد ماوراء النهر، وفي المغرب إلى المحيط، حتى مامضى ذلك الجيل إلا وقد أطفئت نار المجوسية، وكسر صليب النصارى وأعلن الكون الخضوع لله تبارك وتعالى، وصارت الكلمة في ذاك الوقت كلها لكلمة التوحيد لا إله إلا الله. إنها نقلة عظيمة بعد تلك الحال التي لم تكن حال أسوأ منها، ولا يمكن أن يتردى البشر إلى منزلة من الحضيض في الشرك و الطغيان أكثر من تلك المنزلة، ثم ما لبث أولئك أن تجاوزوها وتركت الدعوة والتربية النبوية أثرها الفعال في ذلك الجيل الذي نشر دين الله عز وجل وقضى على كل مظاهر الشرك والطغيان التي كانت سائدة في العالم آنذاك. الجانب الحضاري
وعلى المستوى الحضاري كان العرب أمة متخلفة منحطة، بل لم يكن للعرب آنذاك أي وزن واعتبار، حتى إن الفرس يرون أن أولئك لا يستحقون أن يغزون، فإن صدر منهم ما يسيء الأدب أوكلوا بهم إحدى القبائل المجاورة! وحين جاءتهم كتائب التوحيد، تدعو إلي الله عز وجل ظن الفرس أن هؤلاء قد بلغت بهم الفاقة والجوع كل مبلغ، فعرضوا عليهم العروض المادية ليحلوا أزمتهم ويسدوا فاقتهم، فما كان من منطق الرجل المؤمن بالله عز وجل، إلا أن أعلن رسالته واضحة إن الله ابتعثنا لنخرج من يشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ونطلق بذلك الواقع السيء، كنا في جاهلية وشرك نأتي الفواحش ونأكل الخنافس، ويأكل بعضنا بعضا فأرسل الله إلينا نبيه صل الله عليه وسلم، فتغير الحال وأقاموا بعد ذلك خير حضارة ورفعوا لواء خير أمة، حتى إن المنصفين اليوم من علماء الغرب الكافر يشيدون بالجهود التي بذلها علماء المسلمين.
للأعلى
الجانب الاجتماعي
وفي الجانب الاجتماعي كان مجتمعهم مجتمعاً تسيطر عليه الطبقية، ولهذا جاء نقد هذه المظاهر في أول الإسلام، فحينما أراد النبي صل الله عليه وسلم أن يدعو شرفاء قريش، رغبة منه أن يكسب أحداً منهم، لتكون له قيمته في الدعوة وأثره، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعبس النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وأعرض عنه، فنزل العتاب من الله عز وجل: (عبس وتولى ،أن جاء الأعمى ،وما يدريك لعله يزكى ، أو يذكر فتنفعه الذكرى ….) الآيات. وحينما جاء عتَّاب رضي الله عنه ليقابل عمر رضي الله عنه، فسأله : من استخلفت على أهل الوادي يعني أهل مكة قال: ابن أبزى قال : ومن يكون ؟ قال :مولىً من موالينا، قال :استخلفت عليهم مولىً؟ قال !! حافظ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قال :إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين. كان أولئك لا يعرفون إلا الفخر بالأحساب والأمجاد الشخصية، وتمجيد القبيلة ومُعلَّقة عمرو بن كلثوم شاهدة بذلك والتي يبالغ فيها وصف قبيلته يقول فيها:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا *** ويشرب غيرنا كدرا وطينا ملأنا البر حتى ضاق عنا *** ونحن البحر نملأه سفينا إذا بلغ الرضيع لنا فطاما *** تخر له الجبابر ساجدينا
إن اللغة التي كانت تسيطر على منطق الجميع هي لغة الافتخار بالقبيلة والطعن في أحساب الآخرين، فجاء هذا الدين وقضي على تلك الأمجاد، فلم يعد العربي يفضل على الأعجمي إلا بالتقوى. كان مجتمعا لا يقيم وزنا للمرأة فكان أحدهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، ويبلغ الحال به أن يختفي عن أعين الناس من سوء ما بشر به. كانوا يمارسون التسلط والحجر على المرأة فحين تكون اليتيمة في حجر أحدهم وهي ذات مال، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت غير ذلك لم يزوجها حتى تموت، فيرثها ويأخذ مالها، وبعد أن جاء هذا الدين، غير هذه العادات الاجتماعية في أقل من عقدين من الزمن، حتى أصبحت المرأة تبشر بالجنة، فلقد بشر النبي صل الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب، ويؤكد صلى الله عليه وسلم على القيام بحقوق النساء فيقول:" فاتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم " وكان هذا المجتمع يعاني من الفساد الأخلاقي، فكان النكاح كما تذكر عائشة رضي الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثيرون فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. (رواه البخاري). وكانت الخمرة قد سيطرت عليهم وفعلت بهم الأفاعيل، فحين يتحدث الشاعر منهم عن معركة أو غزوة يتغنى بالخمر، بل تبلغ الخمر منزلة عند بعضهم، أن تكون مما يستحق أن يبقى في الحياة من أجلها كما قال أحدهم:
فلولا ثلاث هم من عيشة الفتى *** وربك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبق العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل الماء تزبد
ويقول أحدهم موصيا إذا مات أن يدفن قريبا من تلك الشجرة التي كان يصنع منها الخمر:
إذا ما مت فادفني إلى جنب كرمة *** تروي عظامي بعد موت عروقها ولا تدفني بالفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
هكذا كانت قيمتها عندهم، وحين جاء الإسلام كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -شأنهم شأن سائر الناس- يشربون الخمر ويتغنون بها كما قال حسان رضي الله عنه:
ونشربها فتتركنا ملوكا *** وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
حين جاء الإسلام بتحريم الخمر أراق أوتلك الآنية آلتي كانت معهم حتى امتلأت أزقة المدينة وشوارعها من الخمر. إن الإفاضة في الحديث عن تلك النقلة حديث يطول، لكن نكتفي بهذه الأمثلة التي أشرنا إليها والتي كلها شاهدة على أن المجتمعات مهما بلغت من السوء والفساد والتأخر والتخلف، فهي قادرة على أن تسترد عافيتها وقادرة على أن تنهض من كبوتها، حين تُدْعى إلى المنهج الحق، وحين تتربى عليه. إن التغيير الذي حصل للجيل الأول يعتبر نموذجاً، وشاهداً لكل من يحمل عزيمة وإرادة في الإصلاح والتغيير. والتغيير الذي حصل لذلك الجيل ليس على مستوى المجتمعات فقط، بل هو على مستوى الأفراد كذلك، فحين نتأمل شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان جبارا في الجاهلية، ويرى الناس أنه أبعد الناس عن الحق، بل كانوا يرون أن يسلم حمار الخطاب ولا يسلم عمر، ولما آمن هذا الرجل، واتبع النبي صل الله عليه وسلم ، تغيرت حاله، فتراه حينما تولى الخلافة رحيما شفوقا رفيقا ولما جاء رسول كسرى ليقابل خليفة المسلمين وجد الخليفة عمر رضي الله عنه- نائما تحت الشجرة قال قولته المشهورة:
فقال قولة حق أصبحت مثلاً *** وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها أمنت لما أقمت العدل بينهم *** فنمت نوما قريرالعين هانيها
إن عمر رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين كان يحمل على كتفه الدقيق والماء يوصله إلى أرملة ليمسح به دمعة عجوز، ودمعة يتيم، إن عمر لما دخل الإيمان في قلبه تغير حاله وكان خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهاك نموذج آخر: إنه مصعب بن عمير رضي الله عنه، الذي كان شابا مترفا، كان من أعطر فتيان مكة، عاش في بيئة ثرية، وليس في مكة شاب أكثر منه نضارة ووضاءة، وبعد أن تبع النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد في غزوة أحد مقبلاً غير مدبر، بحثوا عنه بين الموتى فلما رأوه لم يجدوا ما يكفنوه به إلا ثوب واحد، إن غطوا به رأسه بدت رجلاه، وإن غطوا به رجليه بدت رأسه، رضي الله عنه وأرضاه، وأنزل الله عز وجل فيه وغيره (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) أي تغيير حصل في شخصية ذلك الرجل الذي كان يعيش حياة الترف والرخاء؟ إن ذلك يعطينا دلالة واضحة على أن المجتمعات يمكن أن تتغير، وأن الأفراد يمكن أن يتغيروا، وذلك حينما تكون هناك تربية جادة منتجة. يروي حذيفة رضي الله عنه حديثا يقول فيه: " كان الناس يسألون النبي صل الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، فقال :إن كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فسأل حذيفة : هل بعد هذا الخير من شر؟ قال :نعم ،قال: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قال :وما دخنه ؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي تعرف وتنكر. لقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيحصل خير لهذه الأمة بعد ذلك الشر الذي سيصيبها، مما يعني أن المجتمعات يمكن أن تتغير، حين تحمل إدارة التغيير وتتربى التربية الحقة. المصدر موقع المربى