عدد الرسائل : 209 العمر : 51 نقاط : 576 تاريخ التسجيل : 25/01/2009
موضوع: أهمية السنة(3) السبت 09 يناير 2010, 3:43 pm
و قد كان العرب أمة أمية، يعتمدون على ذاكرتهم وحدها فيما يودون حفظه و استظهاره، و هذه من خصائص العرب، من خصائصهم الذاكرة القوية جدا في حفظ الأشعار و هذه الأشياء، فتركيزهم على الحفظ بجانب الملكات الفطرية عندهم كان الحفظ عندهم شيئا مدهشا، الإنسان لما يعتمد على الذاكرة كثيرا، ويشغلها أكثر فإنها تحتد، كلما شغلتها أكثر كلما تقوى أكثر، فهم ما كانوا يعتمدون على الكتابة، لأنه ممكن الإنسان حتى لو أنه يحضر درس علم مثلا و يسجل بالكتابة ربما لم يركز في كلام الشيخ على أمل أنه لما يرجع إلى منزله سيجد الكلام مكتوبا، واضح؟ فربما أدى ذلك إلى نقص في انتباهه، لكن لو تأكد أن هذه هي الفرصة الوحيدة، لوفاته السماع المركز فسيفوته هذا العلم ولن يستطيع تحصيله، فالشاهد أن هذا أدى بهم إلى التركيز. فمثلا بعض الناس ممن يكونون بصيرين بقلوبهم لا بأعينهم نجد عندهم الذاكرة في الغالب تكون قوية جدا لأنه لم يتشتت مع شيء آخر لأن تركيزه هي الوسيلة الوحيدة للتحصيل، لذلك تجد الذاكرة – ما شاء الله – في غاية القوة، ولذلك رأينا علماء كثيرين من فطاحل العلماء ممن هم بصراء بقلوبهم بسبب تعويض الله – سبحانه و تعالى – إياهم في حدة الذاكرة. فالشاهد أن العرب لما كانوا أمة أمية يعتمدون على الذاكرة وحدها فيما يودون حفظه و استظهاره، فإذا التوفر على حفظ القرآن مع نزوله منجما على آيات و سور قصيرة ميسور لهم، وداعية إلى استذكاره في صدورهم، فلو دونت السنة كما دون القرآن و هي واسعة الأرجاء كثيرة النواحي شاملة لأعمال رسول الله – صلى الله عليه و سلم – التشريعية و أقواله منذ بدء الرسالة إلى أن لحق بربه؛ للزم انكبابهم على حفظ السنة مع حفظ القرآن، و فيه من الحرج ما فيه، مع أنه لا يؤمن حينئذ اختلاط بعض الأحاديث بالقرآن سهوا من غير عمد في وقت كانوا حديثي عهد بالقرآن و أسلوبه، فكان لا يؤمن أن يختلط شيء من السنة بشيء من القرآن الكريم لأنه ما كان ترسخ الأسلوب القرآني بالذات في المرحلة الأولى بحيث يحصل التمييز.
أما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضا، لأن تكفله سبحانه بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه الذي هو السنة {إنا نحن نزلنا الذكر} تشمل القرآن و السنة، لكن هناك أسباب للحفظ تختلف في السنة عن القرآن، فالمقصود هو بقاء الحجة فيها قائمة على الناس، و بقاء الهداية بحيث ينالها كل من يطلبها، فحفظ الله السنة في صدور الصحابة و التابعين حتى كتبت و دونت، فحفظ الله – سبحانه و تعالى – السنة منقولة شفاها عن طريق الرواية و التحمل في صدور الصحابة ثم في صدور التابعين إلى أن كتبت و دونت فيما بعد.
يقول بعض العلماء: "المعول عليه في المحافظة على ما هو حجة و صيانته من التبديل و الخطأ هو أن يحمله الثقة العدل حتى يوصله لمن هو مثله في هذه الصفة وهكذا، سواء أكان الحمل له على سبيل الحفظ للفظه أو بالكتابة له أو الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام". يعني ما المقصود أساسا في موضوع المحافظة على السنة؟ هو ألا يحصل فيها تبديل ولا خطأ، و تنقل من جيل إلى جيل عن طريق العدول الثقات، العدل الضابط عن مثله، سواء كان الحفظ عن طريق حفظ اللفظ ثم تأديته، أو عن طريق التدوين و الكتابة، أو عن طريق الفهم الدقيق لمعنى الحديث مع التعبير عنه بمعنى واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام. فأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة مادامت صفة العدالة متحققة، فإذا اجتمعت هذه الثلاثة مع العدالة؛ كان ذلك الغاية و النهاية في المحافظة، و إذا اجتمعت و انتفت العدالة لم يجد اجتماعها نفعا، ولم يغن فتيلا، ولن نأمن حينئذ من التبديل و العبث بالحجة. و من باب أولى إذا انفردت الكتابة عن الحفظ و الفهم و عدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب فإنا لا نثق حينئذ بشيء من المكتوب. ألا ترى أن اليهود و النصارى كانوا يكتبون التوراة و الإنجيل؟ و مع ذلك وقع التبديل و التغيير فيهما لما تجردوا من صفة العدالة حتى لا يمكننا أن نجزم و لا أن نظن بصحة شيء منهما، بل قد نجزم بمخالفة أصلهما، قال الله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما كتبت أيديهم، و ويل لهم مما يكسبون}.
بعض الناس يثير شبهة فيقول: كون السنة لم تكتب يدل على أنها ليست بحجة، إذ لو كانت السنة حجة؛ لأمر النبي – صلى الله عليه و سلم – بكتابتها. فالجواب على هذه الشبهة: هو أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، بمعنى أنه إذا كان المهم في المحافظة على الحجة عدالة الحامل لها – وهذا أهم شيء، أن يكون الحامل عدلا ضابطا – على أي وجه كان الحمل، سواء كان يتحمل عن طريق اللفظ الشفاهي، أو تحمل عن طريق الكتابة، أو الفهم. فإذا كان المهم في المحافظة على الحجة عدالة الحامل لها على أي وجه كان حملها؛ تحققنا أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، و أن صيانة الحجة غير متوقفة عليها، و أنها ليست السبيل الوحيد لذلك، أضف إلى ذلك أن النبي – صلى الله عليه و سلم – كان يرسل سفراءه من الصحابة إلى الآفاق ليدعوا الناس إلى الإسلام، و يعلمونهم أحكامه،و يقيموا بينهم شعائره، ولم يكن يزودهم بمكتوب يقيم الحجة على جميع الأحكام التي يبلغها السفير للمرسل إليه، و ما ذاك إلا لأن النبي – صلى الله عليه و سلم – كان يرى في عدالة السفير و حفظه لما حفظ من القرآن و السنة الذين لم يكتبهما لكن وثق في عدالته وفي حفظه و أنه سينقل القرآن و السنة، فكان يرى في ذلك الكفاية في إقامة الحجة على المرسل إليهم و إلزامهم اتباعه.
أيضا، الصلاة و هي الركن الثاني في الإسلام، لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده، بل لا بد من بيان رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، ولم يثبت أنه – صلى الله عليه و سلم – أمر بكتابة كيفيتها التي شرحها بقوله و فعله، فلو كانت الكتابة من لوازم الحجية لما جاز أن يتركها النبي – صلى الله عليه و سلم – دون أن يأمر بكتابتها التي تقنعهم بالحجية، فدل ذلك على أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، بل هناك وسائل أخرى لنقل العلم و ثبوت الحجة. أيضا، ثبتت حجية السنة الشريفة قطعا، و أنها ضرورة دينية، و مع ذلك لم يأمر النبي – صلى الله عليه و سلم – أمر إيجاب بكتابة كل ما صدر منه، فلو كانت الحجية متوقفة على الكتابة لما ترك النبي – صلى الله عليه و سلم – الأمر بها و إيجابها على الصحابة – رضي الله عنهم –.
نتوقف قليلا عند ملكة الحفظ عند العرب، وكيف أن الله – سبحانه و تعالى – اختص العرب بهذه الملكة العجيبة في الحفظ بما لا يعرف في أمة غير العرب، فقد تلقى المسلمون الأوائل دعوة النبي – صلى الله عليه و سلم – كما يتلقى الظمآن الماء الزلال، فما يكاد – صلى الله عليه و سلم – يفعل فعلا، أو يفرغ من قول حتى ينطبع ذلك في نفوسهم، فتعيه ذاكرتهم، و تحفظه أذهانهم. ولا عجب في ذلك فقد كان العرب أمة يضرب بها المثل في الذكاء و صفاء الطبع، و حسبك أن تعلم أن رؤوسهم كانت دواوين شعرهم، فالآن تجد مئات دواوين الشعر في المكتبات، فهل هناك من يحفظها؟ فلو وجد واحدا يحفظ المعلقات السبع فإنه يكون قد جاوز القنطرة! أما هم فكانت دواوين شعرهم في رؤوسهم، و كانت أذهانهم سجل أنسابهم، و صدورهم أوعية تاريخهم و وقائع أيامهم، فلما جاء الإسلام أرهف فيهم هذه القوى، فصقل طباعهم، وطهر قلوبهم، و نور عقولهم، فكانوا على أوفر حظ من صفاء الذهن وقوة الحفظ، لا سيما إذا كان ما يسمعونه هو أفضل الحديث و أحسنه: كتاب الله – عز وجل – و ما يرونه أو يسمعونه هو خير الهدي: هدي محمد – صلى الله عليه و سلم –.
من أخبار العرب في ذلك أن عمر بن أبي ربيعة المخزومي أنشد عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قصيدته:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر ...هذه القصيدة تقرب من سبعين بيتا، وكان نافع بن الأزرق الخارجي يسمع، فلما انتهى عمر بن أبي ربيعة من إنشاد قصيدته قال ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس، أيضرب الناس إليك أكباد الإبل يسئلونك عن الدين، و يأتيك غلام من قريش ينشدك سفها فتسمعه؟ قال ابن عباس – رضي الله عنهما –: تالله ما سمعت سفها. قال ابن الأزرق: أما أنشدك:
رأت رجلا أما إذا الشمس قابلت فيهدى، و أما بالعشي فيخــســـر قال ابن عباس: ما هكذا قال! إنما قال:
رأت رجلا أما إذا الشمس قابلت فيضحى، و أما بالعشي فيخصر فقال ابن الأزرق: أوتحفظ الذي قال؟ قال ابن عباس: و الله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها. قال نافع: فارددها. فأنشدهم ابن عباس القصيدة – وهي سبعون بيتا – من ذاكرته سمعها مرة واحدة – رضي الله عنه –.
فموضوع أن العرب كانوا أمة أمية جعلهم أساسا يعتمدون على الحفظ دون الكتابة، و هذا أدى إلى قوة ملكة الحفظ عندهم بخلاف من يعتمد على الكتابة فإنه تضعف فيه ملكة الحفظ، و يكثر عنده الخطأ والنسيان لما حفظه و هذا مشاهد، فالأعمى أقوى حفظا لما يسمعه من البصير، لأنه جعل كل اعتماده على ملكة الحفظ، بخلاف البصير فإنه يعتمد على الكتاب، و أنه سينظر فيه عند الحاجة. و كذلك التاجر الأمي قد يعقد من الصفقات في اليوم الواحد نحو المئة، و مع ذلك نجده يحفظ جميع ما له عند الغير بالتفصيل، وما عليه له بدون خطأ أو نسيان لقرش واحد، بخلاف التاجر المتعلم الذي يتخذ الدفاتر في متجره و يعتمد عليها في معرفة الصفقات وما له و ما عليه، فإنا نجده سريع النسيان لما يكتبه كثير الخطأ فيه، و لذلك كانت موضوع استخدام الآلة الحاسبة كارثة على الأطفال، الآن الأولاد لا يكادون يحفظون جدول الضرب.
مما يرجح الحفظ على الكتابة كوسيلة من وسائل الإثبات؛ أن الحفظ في الغالب لا يكون إلا مع الفهم و إدراك المعنى، إلى جانب سهولة استدعاءه، سهولة استدعاء المعلومة من العقل في أي وقت أو مكان، لأنه يكفي أن كل أجهزة الحاسوب هذه بكل إمكانياتها هي أصلا مقتبسة من نظام العقل البشري أو المخ و اتصالاته في الجسم، حتى قال بعضهم أن العمليات التي يقوم بها العقل البشري لإنسان واحد تحتاج كي تقوم بها اجهزة الحاسوب إلى سبعمائة مليون جهاز يغطون كل سطح الكرة الأرضية، واضح؟ فالعقل البشري أعطاه الله – سبحانه و تعالى – من الإمكانات الشيء العجيب. قال منصور الفقيه: علمي معي، حيثما يممت أحمل، بطني وعاء له، لا بطن صندوق، إن كنت في البيت كان العلم فيه معي، أو كنت في السوق كان العلم في السوق. ومن أجل هذا كره من كره من السلف كتابة الحديث، فإنهم خافوا ضياع العلم بالاتكال على الكتابة، وعدم تفهم المكتوب. قال إبراهيم النخعي – رحمه الله –: "لا تكتبوا فتتكلوا". يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم – حفظه الله –: كنت أحضر لفضيلة الشيخ بديع الدين السندي – رحمه الله – من علماء الحديث الكبار، و كنا ندرس عليه شرح الترمذي، فكان يتضايق جدا من وجود جهاز تسجيل، يقول: وجود جهاز تسجيل سيجعلكم تنامون و أنتم في الدرس ولا تركزون، على أساس أن الإنسان مؤمن أنه عندما يرجع إلى بيته سيجد الفرصة لسماع الدرس من جديد، فمتى ما لم تركز و تنتبه للمحاضرة مباشرة من الشيخ فإن هذا ينقص تركيزك وهذه فرصة لا تعوض. و لذلك كان من نصائح الشيخ ابن بدران – رحمه الله – صاحب المدخل إلى مذهب ابن حنبل، كان ينصح طالب العلم إذا أراد أن يحفظ شيئا، أو يقرأ كتابا قراءة جيدة، فعليه أن يفترض أنه لا توجد فرصة ثانية بعد هذه الفرصة التي يقرأ فيها الكتاب، أنه مثلا سيحترق أو سيضيع أو سيتبخر ولن يبقى معه، فتقبل على قراءة الكتاب على أساس أن هذه المرة التي سيدرسه فيها هي المرة الوحيدة، أو هذا الدرس هي المرة الوحيدة التي سأحضره، فتستجمع كل قواك حتى لا تتكل على شيء خارج من عقلك، لكن خزنه في عقلك. يقول إبراهيم النخعي – رحمه الله –: "لا تكتبوا فتتكلوا"، تعتمد على أن هناك كتابا أو ورقا مكتوبا و بالتالي لا تركز فهذا يؤثر على حفظك.