لمن القيمة فى مصر اليوم؟!
بقلم: د. جابر عصفور
أنا من جيل كانت الأسماء اللامعة والنماذج المطروحة عليه هي أسماء كبار الأدباء والمفكرين. وكنا نري القدوة حولنا. ونحن أطفال, في المدرسين المحترمين الذين كانوا نموذجا يحتذي,
أذكر المرحوم أحمد شلبي أستاذ اللغة العربية الذي دفعنا إلي قراءة طه حسين والعقاد وهيكل ونجيب محفوظ. وأذكر أني تعلمت شجاعة الكلمة وجسارة الموقف وأهمية المعرفة التي ترتفع بقيمة الإنسان إلي الذري من طه حسين, وتعلمت مواجهة طبائع الاستبداد بالكتابة من معرفة علي عبدالرازق الذي أطاح بأحلام الملك فؤاد في الخلافة بكتابه الإسلام وأصول الحكم. وكنت أقرأ مقالات العقاد الذي عرفت من تاريخه معني قولة: إن البرلمان علي استعداد لتحطيم أكبر رأس في البلد دفاعا عن الدستور. وكان ذلك في ذروة استبداد العهد الملكي القديم. وكانت أسماء المفكرين والعلماء نجوما مضيئة في سماواتنا التي كان يسطع فيها أسم مصطفي مشرفة أكثر من الملك فاروق نفسه, ونجيب محفوظ الطبيب ثم سميه الأديب كانا أقرب إلينا, عقلا ووجدانا, من الملوك ورجال الثورة من الضباط الأحرار. باختصار, كان المناخ الذي حولنا, والسياق الذي صنع وعينا يفرد القيمة الاجتماعية والإعلامية لرجال العلم, ابتداء من أستاذي أحمد شلبي الذي كنا نهاب السلام عليه خارج المدرسة تقديرا له وإجلالا لقدره, وانتهاء بالعقاد الذي رأيته في مكتبة الأنجلو, مرة, ولم أجرؤ علي الاقتراب منه, أو حتي إلقاء التحية عليه, وانتهاء بطه حسين الذي أربكني الجلوس في حضرته, رغم تشجيع أستاذتي سهير القلماوي عليها رحمة الله.
وحتي عندما أصبحنا شبابا كان ما نعرفه عن حسين فوزي الذي كان يشرح لنا أسرار الموسيقي الغربية في البرنامج أكثر مما نعرفه عن وزراء الدولة, وكنا نلهث وراء أي كتاب جديد لتوفيق الحكيم الذي كانت تصلنا نوادر بخله, ونتابع المعارك النقدية بين محمد مندور ورشاد رشدي, كما تابع الذين قبلنا معارك طه حسين والعقاد. وللحق ظل نجوم المجتمع هم قادة الفكر الثقافي والإبداع والعلوم, وحتي عندما ارتكب عبدالناصر خطأه التاريخي بإدخال صفوة العقول المصرية إلي سجونه الرهيبة, من سنة1959 إلي سنة1964, فإن رموز هذه الصفوة خرجوا من السجن ليتبوءوا مناصب كبري في الدولة: محمود أمين العالم, فؤاد مرسي, اسماعيل صبري عبدالله, رشدي صالح.. وغيرهم. ولكن مع انتهاء الزمن الناصري انقلب الحال. صحيح أننا ورثنا أوهام: أهل الثقة فوق أهل الخبرة, وكل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب, دون أن نعرف من الشعب؟ ومن أعداؤه؟.. إلي آخر الشعارات التخييلية. لكن ظل عبدالناصر حريصا علي عيد العلم, وعلي تكريم العلماء والأدباء والمفكرين, وعلي تكريم أوائل الخريجين, ولا أزال أذكر أنني بكيت قهرا عندما لم أصافح عبدالناصر في عيد العلم مع أني كنت الأول علي كل أقسام اللغة العربية في سنة تخرجي1965.
الآن, يا عجائب الزمان لم يعد لدينا عيد للعلم, نحتفي فيه برموز العلم والفكر والإبداع, سنويا, وأصبحت جوائز الدولة يتم توذيع قيمتها المادية في السر, إلا إذا تذكرها البعض حينا بعد حين. ونسيت الأمة معني وضرورة الاحتفاء بالعلم والثقافة والإبداع, وزاد الطين بلة أننا أصبحنا نعيش في زمن لا يعرف مشروعات قومية كبري في التعليم والتثقيف, أو حتي التصنيع. ضاع زمن ملحمة السد العالي وطواه النسيان, واهتزت ريادة مصر الثقافية وتطاول عليها الأقزام. وأضاف زواج السلطة ورأس المال كوارث جديدة, خصوصا علي مستوي القدوة, حيث أصبح سلطان المال وبريق المنصب هو الهدف عند الأجيال الجديدة, وأصبحت الفهلوة والمسارب التي تناوشها الشائعات هي الحلم المأمول بالوصول إلي تحقيق مطامح ومآرب أبناء وأحفاد سرحان البحيري انتهازي رواية محفوظ ميرامار حتي الأدب اختلت معاييره وأصبحت الأولوية للأكثر مبيعا لا الأكثر قيمة, وسكت النقاد الذين يؤثرون السلامة والحفاظ علي مصالحهم الضيقة. وكانت صور الفساد العديدة التي لا تزال تثقل علي النفوس قرينة ضياع القيم النبيلة لزمن جميل مضيء, وغلب القبح علي مدينة القاهرة التي كانت أنظف عاصمة عربية, وانحدر التعليم إلي أبعد حد, وتآكلت شعارات ثورة1919 وأهمها: الدين لله والوطن للجميع, وشهدنا من يستبدل الانتماء الديني بالانتماء الوطني الذي هو الأصل, وأصبحت القيم التي لحقها جيلي ذبيحة تنهشها أنياب اللئام. واعتاد الناس وقع الكوارث بعد أن تكسرت النصال علي النصال, وارتفعت معدلات الاحتقان الطائفي الذي صنعه النظام الساداتي, تاركا جذوره التي لم نستأصلها. وبدل أن تتسابق الشاشات التليفزيونية الخاصة والعامة في مناظرات جادة وفكرية, تنافست علي ترضية أحمد شوبير ومرتضي منصور.
أذكر أن صديقي وحيد حامد لاحظ جهلي بدخل نجوم التمثيل الحالي. ويبدو أن جهلي كان فاضحا, فأخذ يشرح ما يقضي علي جهلي, وعلمت منه أن أجر أي نجم شهير أو نجمة يتراوح ما بين خمسة وسبعة ملايين جنيه في المسلسل التليفزيوني الواحد, الأمر الذي دفعني إلي تذكر أن هذا المبلغ أقل قيمة مالية من جائزة نوبل التي حصل عليها نجيب محفوظ, ولم يتوقف عجبي حين أخبرني صديق آخر أن علاء الأسواني احتفل مع أصدقاء له بوصول عمارة يعقوبيان في طبعاتها العربية والأجنبية الي رقم مليون, فترحمت علي نجيب محفوظ الذي لم يحلم بالوصول الي هذا الرقم أو ربعه, وتهلل وجهه بالفرح حين اشتري منه إبراهيم المعلم حقوق النشر الإلكتروني لكل كتبه بمبلغ مليون جنيه, وأطلق نكتته الشهيرة: سآخذ الشيك وأهرب, مشيرا إلي الرأسماليين الذين نهبوا أموال الشعب المسكين وهربوا بها.
سألت نفسي, في حزن, ماذا جري للمصريين, وهل مصر, التي أفسد بعض الجهلاء من معلقي الكرة فيها العلاقة بين مصر والجزائر, هي مصر التي وقفت بكل من فيها الي جانب الجزائر في حرب تحريرها, ومصر التي اختلط دم جنودها بدماء جنود جزائريين علي جبهة القتال ضد اسرائيل. لقد سبقني جلال أمين في السؤال عن ماذا حدث للمصريين. ولكني سأقتصر من سؤاله علي المقارنة بين معاصرينا من الجامعيين وأبيه أحمد أمين الذي أفني حياته, راهبا متصوفا, في العلم, ولم يشغله عن العلم غيره, وكان نموذجا لعشرات غيره من الذين أسهموا في صنع جامعة نفخر بتاريخها وليس حاضرها, وظلوا نماذج تحتذي عند الذين يبحثون عن القيم الحقيقية المتجسدة في المتميزين من الباحثين والمبدعين الذين هم قدوة الأجيال, لكن المفارقة المحزنة أن هذه النماذج ينسحب عنها الضوء, لينتقل إلي الرأسمالي الذي يحصد مليارات في سنوات قليلة, والكاتب الانتهازي الذي لا يبرع إلا في النفاق, وعلي بعض وزراء لا يمتلكون أي رؤية للتقدم, وقد يدفعون إلي المزيد من التأخر, هكذا بدل أن تعيش في زمن يحتفي بالقيمة الأصيلة ورموزها يحتفي بالنقيض, وذلك إلي المدي الذي يصح معه السؤال: لمن القيمة في وطننا في هذا الزمان الرديء, ومتي نعود إلي الاحتفاء بالقيمة الحقيقية التي ترتفع بمستقبل واعد لهذا الوطن متي؟! متي؟! متي؟!
د. جابر عصفور اﻷهرام