إن زماننا كثير التعقيد كثير التحديات، كما أنه كثير الفرص والبدائل والمعطيات، وإن كثيرًا من الناس يعانون من كثرة الانشغال، وغياب وعيهم عن كثير من القيم والمفاهيم التي تشكل جوهر حياتهم، ويضحي النجاح في لفت انتباههم إليها، عملًا قيمًا في حد ذاته، ولو كانت استجابة الناس محدودة.
وعلى أمة الإسلام جهد في سبيل إثارة اهتمام جماهير المسلمين نحو قضايا التربية والتعليم، بوصفها القضايا الأكثر فاعلية في تشكيل ملامح الأجيال الجديدة، ولن نستطيع أن ندرك مدى حاجتنا إلى المدارس الجيدة إلا إذا تصورنا جيلًا من غير قراءة ولا كتابة, وآنذاك لن ترى سوى الأمية وضيق الأفق والسذاجة والخرافة والبطالة, وتدهور الشخصية, وهذا يعني انهيارًا كاملًا للإنسان وبالتالي للمجتمع، ولهذا فإن كون أول كلمة يهبط بها جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم تحث على القراءة، يُعد عميق الدلالة في هذا الشأن.
وبين أيدينا كتاب بعنوان (بناء الأجيال) للدكتور (عبد الكريم بكار)، وهو يتحدث فيه ويؤصل لقضية من الأهمية بمكان، ألا وهي كيفية بناء الأجيال من خلال غرس القيم فيها.
المقدمة:
يتحدث الدكتور عبد الكريم في المقدمة عن تحديد هدف التربية الإسلامية سواء كانت في البيوت والمساجد والمدارس، فهي تستهدف تكوين المسلم الحق، الذي يعيش زمانه في ضوء العقيدة, والمبادئ التي يؤمن بها، وقد عمد الدكتور إلى توضيح الهدف من التربية من خلال تلك النقاط:
ـ تعريف الناشئة على الله جل وعلا، وأنه الخالق الرزاق المعين الواحد الأحد الذي يستحق منا إخلاص العبادة، وغرس حب الله ورسوله في نفوسهم.
ـ إطلاع الناشئة على الخصائص العامة للإسلام وما تحمله من الشمول لكل جوانب الحياة، وصلاحية الإسلام لتوجيه حياة الناس في كل العصور.
ـ تعزيز روح الانتماء إلى أمة الإسلام، والانتماء إلى المجتمع المسلم الذي يعيش فيه الناشئ, وتربيته على المحافظة على الموارد الطبيعية، والمحافظة على المرافق العامة والمساهمة في تنميتها.
ـ بث روح الإصلاح في الناشئة، وإشعارهم بمسئوليتهم تجاه القيام بالدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتشجيع الخير ومحاصرة الشر.
ـ تحفيز حب الاستطلاع، وتدعيم روح التساؤل والمشاركة والمناقشة للقضايا المختلفة.
ـ تكوين الإنسان الحر الذي يمتلك حريته لا عن طريق الشعارات، ولكن عن طريق توفر البدائل، وعن طريق العلم والإرادة ومقاومة الرغبات.
ـ تعزيز فهم الطالب للواقع وما يدور في أفق حياته اليومية, وتبصيره بأحوال العالم المعاصر.
الموضوع الأول: مبادئ ومفهومات مهمة في التربية:
ثم تناول الدكتور موضوعًا بعنوان مبادئ ومفهومات مهمة في التربية، ومع أن هذه المبادئ والمفهومات الأساسية كما يقول الدكتور لا تتصل جميعًا بالعمل التربوي على نحو مباشر، لكنها على كل حال تشكل الفضاء الحضاري الذي تتنفس فيه كل جهودنا الإصلاحية على اختلاف مجالاتها ومستوياتها، ونحن نعلم أن من خصوصيات ميدان التربية أنه يعتمد في حركته وتطوره على حقائق ومفهومات مأخوذة من ميادين معرفية متعددة، قريبة من التربية أحيانًا وبعيدة عنها أحيانًا أخرى.
ومن هذه المبادئ تشجيع المبادرة الحرة، وهذا يحتاج إلى روح مختلفة، عن الروح السائدة في معظم بلادنا الإسلامية، حيث إننا نرى كثيرًا من المعلمين والمربين الأخيار يضبطون إيقاع الحركة في بيوتهم وفي مدارسهم ومؤسساتهم التعليمية أكثر بكثير مما ينبغي، ويستهلكون الكثير من جهودهم في هذا الشأن، وربما كانوا يفعلون ذلك لأنهم لا يتصورون بديلًا لما يقومون به سوى الفوضى والتفلت, وتضييع الواجبات, والخروج على النظام والآداب العامة، وهم ينسون أنهم بذلك ينشغلون عن بناء الوعي لدى الطلاب، وتنمية روح المسئولية الشخصية التي من غير قسط من الحرية لا تنمو ولا تترسخ، كما لا تنمو الحاسة الأخلاقية والوازع الداخلي من غير ترك فرصة للاختيار.
ومن هذه المبادئ التي ذكرها الدكتور، الحوار لا المناظرة، لافتًا إلى أننا لو عدنا إلى التربية التي تلقيناها ونحن صغار، لوجدنا أن الكبار كانوا يمارسون عملية إلغاء للصغار، فتكلُّم الصغير أمام الكبير مخلًّا بالأدب الرفيع الذي يجب أن يتحلى به الناشئ، وسؤال الطالب لأستاذه عن دليل القول الذي يقوله، تشكيك في معرفة الأستاذ، وأحيانًا في أمانته وهكذا، فنحن لسنا بحاجة إلى المناظرة ولكننا بحاجة ماسة إلى الحوار، حيث إن كل واحد من المتحاورين لا يحرص على إقناع صاحبه برأيه ليتبناه، ويعدل عن رأيه الخاص، وإنما يقوم بإضاءة نقطة مظلمة، وتوضيح قضية غامضة لا يراها المحاور الآخر على الوجه الصحيح, وهكذا يكون الحوار هادئًا باردًا وديًا، لأنه يستهدف النفع المتبادل، وليس الاستيلاء والاستحواذ، ومن المهم جدًا أن نجعل الحوار أساسًا في حياتنا, ولا سيما المجال التربوي.