المسلم يعمل لهدف واضح وغاية محددة فهو يعلم من الذى خلقه؟ ولماذا أتى إلى الدنيا؟ وإلى أين مصيره؟ فهو يسير على بصيرة وبينة من الله تعالى لا تحركه الأهواء ولا تتلاعب به الشهوات قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد : 14)
فالمسلم المنضبط بمنهج الله تعالى لا يستوى مع من تسيره أهواؤه، ومن هو أسير لشهواته فالمسلم يسير فى ضوء ساطع، أما غير المسلم فيسير فى ظلام دامس فإما أن يحطم غيره، أو يحطم نفسه، قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام : 122)
والمسلم يعلم أنه أتى إلى الدنيا بقضاء الله تعالى وقدره على وفق علمه الأزلى الذى لا يتغير ولا يتبدل فلقد جاء إلى الدنيا فى لحظة حددت قبل أن يخلق الله السماوات والأرض وما كان له أن يأتى قبل ذلك أو بعد ذلك بلحظة ولن يموت إلا إذا انتهى أجله الذى قدره الله تعالى له .
وكما قدر الله تعالى أعمار الخلق قدر أقواتهم وأرزاقهم وأمن كل مخلوق على رزقه وأجله فلن يموت إنسان إلا إذا استوفى رزقه وأجله الذى قدره الله تعالى، وبذلك يحرر الإسلام المسلم من الذل والعبودية لغير الله تعالى وذلك لأن الخوف على الأجل والرزق هو الذى يستذل الإنسان ويُعبّده لغير الله لظنه أن أمره بيد الخلق لا بيد الله تعالى وحده.
عَنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَفَثَ رُوحُ الْقُدُسِ فِى رَوْعِى أَنَّ نفْسًا لَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِى الطَّلَبِ، وَلا يَحْمِلَنَّكُمِ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلا بِطَاعَتِهِ" (أخرجه الطبرانى فى الكبير) والروع يطلق على الخاطر والنفس والقلب وكما قدر الله تعالى أعمار الأفراد قدر أعمار الأمم والحضارات أيضا.
قال الله تعالى: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (يونس: 49) والمسلم يعلم أن أمره كله حاضره ومستقبله بيد الله تعالى أرحم الراحمين فلا يقع شيء فى العالم العلوى أو السفلى عظم هذا الشيء أو صغر إلا بقضاء الله وقدره على وفق علم الله الأزلى الذى لا يتغير ولا يتبدل، فهو لم يأت إلى الدنيا عبثا ولم يترك مهملا بل جاء بقدر لهدف محدد ولم يترك فى مهب الريح تحركه كيفما تشاء.
قال الله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49)
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التى تدل بوضوح وجلاء على أن الكون كله يسير وفق نظام محكم لا يتغير ولا يتبدل ولا يخطئ، قال الله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر : 21)
لذلك فالمسلم لا يقلق ولا يخاف على مستقبله بعد الأخذ بالأسباب لأن مستقبله بيد الله أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وهو العليم بما يصلح خلقه وما يفسدهم على الحقيقة .
قال الله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة : 51)
ولا يندم على ما فات وانقضى إلا إذا قصر فى واجبه لأن ما وقع وقع بقضاء الله وقدره فلم يقع وقوعا عشوائيا، فليس بعد وقوع المقدور إلا الرضا والتسليم، لأمر الله تعالى وأخذ العظة والعبرة واستخراج الدروس والعبر التى تنفع فى المستقبل، لذلك فالمؤمن فى مقام الرضا عن الله ثابت لا يتغير له حال مهما تقلبت عليه الأحوال، فهو يعلم أن اختيار الله تعالى له أفضل من اختياره لنفسه وإن بدت فى اختيار الله شدة ومشقة فعاقبتهما إلى الخير فى الدنيا والآخرة قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التغابن: 11)
والمسلم كله أمل فى الله تعالى، لا يقنط من رحمة الله تعالى ولا يتسرب اليأس إلى نفسه يوقن أن مع العسر يسرا، وأن مع الضيق فرجا ومخرجا يوقن بقول الله تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 56)
والمسلم الذى عبّد نفسه لله تعالى ورضى عن ربه لثقته فى الله عز وجل وأنه به رءوف رحيم؛ يؤجر على السراء لشكره كما يؤجر على الضراء لصبره ورضاه ، لذلك تعجب النبى صلى الله عليه وسلم من حال المؤمن مع الله وثباته فى مقام الرضا عن الله تعالى وأن ذلك الرضا لا يصدر ولا يتوقع إلا من المؤمن الواثق بأن أمره بيد الله أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين.
والمسلم يعلم الغاية العظمى من خلقه وإيجاده فى هذه الحياة الدنيا فالله تعالى قد خلقه لعبادته وطاعته.
وسوى عبادة الله تعالى تشمل العمل والسعى فى الأرض لتحصيل الرزق وغير ذلك من الأعمال المباحة إذ هى وسائل لتحقيق الهدف الأول، بشرط صحة النية فى الأعمال المباحة حتى تتحول إلى طاعة وعبادة يؤجر عليها المسلم.
والمراد بالعبادة التى خلق لها الإنسان العبادة بمعناها العام الشامل لكل مظاهر الحياة بمعنى أن تكون حياة المسلم بحركاته وسكناته ونومه ويقظته كلها لله تعالى لأنه لا يتصرف فى كل ذلك إلا بمنهج الله تعالى دائما وأبدا منقادا لأمره فى كل أحواله وهذا هو المراد من قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162-163)
لذلك فالمسلم لا ينشغل عن الغاية التى خلق لها بالوسائل التى جُعلت ليستعين بها على تحقيق هذه الغاية وإلا كان من الخاسرين.
والمراد بذكر الله تعالى هو حالة نفسية تستولى على قلب المسلم تنشأ عنها المراقبة لله تعالى والخشية منه فلا يغفل عن الله تعالى لحظة واحدة بل يظل مراقبا لربه خائفا منه تعالى فتنبعث كل جارحة من جوارحه نحو مرضاة الله تعالى مؤدية ما طلب منها على الوجه الأكمل قدر الاستطاعة، تاركة ما حرم الله تعالى عليها جملة وتفصيلا.
وهذا الذكر ثمرة من ثمار معرفة الله تعالى وهو أعظم ما تثمره الصلوات الخمس وغيرها من العبادات الصحيحة كالأذكار والصيام وهو الذى يجعل المسلم موصولا بالله منضبطا وفق شرع الله تعالى قال الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت : 45)
والمسلم يعمل لهدف واضح وغاية عظمى هو على يقين منها فالمسلم يعلم أن الدنيا ليست نهاية المطاف بل بعد الدنيا دار أخرى هى دار النعيم المقيم، لذلك هو يستعد للقاء الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح الذى يعود عليه وعلى غيره بالخير يرجو بذلك رضا الله تعالى والسلامة فى الدنيا والنجاة فى الآخرة، والفوز بالجنة فكله شوق إلى لقاء ربه ووليه.
قال الله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وأنَ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى) (النجم : 39-42) وكما قال مؤمن آل فرعون الذى كتم إيمانه (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ) (غافر: 43) فالمرجع والمصير إنما هو إلى الله تعالى فى دار الخلد.
فالإنسان الذى خلقه الله بيده وكرمه غاية التكريم وأسجد له الملائكة وأرسل إليه الرسل وأنزل له الكتب وسخر له كل ما فى السماوات وما فى الأرض، أكرم على الله من أن تنتهى حياته بالموت كأى حيوان لم يحظ بتكريم، بل هذا عبث نزه الله نفسه عنه.
قال الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون: 115-116) كما أن للإيمان بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال دخلا كبيرا فى تهذيب النفس وتقويم السلوك وسلامة الإنسان من ظلم أخيه الإنسان .
إن الإيمان الصحيح بالله تعالى ومعرفة الغاية التى خلق الإنسان لها والإيمان باليوم الآخر وبالقضاء والقدر يحقق للنفس السكينة والراحة ويحقق للقلب الاطمئنان والهدوء ويحقق للإنسان السعادة فى الدنيا والآخرة، ويدفع عن الإنسان القلق والخوف من المستقبل والندم على ما فات وانقضى، مما يسبب كثيرا من الأمراض النفسية والعصبية.
وذلك لأن فى النفس وحشة لا تزول إلا بالأنس بالله تعالى، وفى النفس ندم وحسرة وألم لا يدفع إلا بالرضا بقضاء الله تعالى وقدره، وفى القلب خوف لا يزول إلا بالاعتماد على الله تعالى .
ولقد أخبر الله تعالى أن الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح يحققان للمسلم الحياة الطيبة والسعادة فى الدنيا حيث يعالج الإيمان الصحيح كل مشاكله النفسية معالجة تلقائية، وحيث السعادة الأبدية فى ضيافة أرحم الراحمين فى الجنة .
وواقع المسلمين خير شاهد على دور الإيمان الصحيح فى حياة المسلمين فنسبة الأمراض النفسية فى بلاد المسلمين قليلة جدا لا تقارن بنسبتها فى البلدان غير الإسلامية ونسبة الانتحار فى البلدان الإسلامية تكاد تكون معدومة، ولا تكاد تذكر إذا ما قورنت بنسبة الانتحار فى البلدان غير الإسلامية مع أن السواد الأعظم من المسلمين لم توفر لهم وسائل الراحة التى وفرت لغير المسلمين بل يعيش أكثر المسلمين فقراء لأسباب، الكثير منها ليس لهم يد فيها، وعلى قدر إيمان العبد وصلته بالله تعالى تكون سعادته فى الدنيا، فلم يؤثر أن رجلا صالحا مرض نفسيا أو مات منتحرا وذلك لأن الإيمان الصحيح والصلة بالله تعالى تورث العبد أنسا بالله تعالى ولذة الأنس بالله تعالى لا تعدلها لذة ولا يعرف قيمة الأنس بالله ولذته إلا من ذاقه حتى قال قائلهم: "نحن فى سعادة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف، وهى سعادة التسليم لله تعالى والرضا بقضاء الله تعالى وقدره.
ولأن المؤمن يعلم أن له ربا ينزل حاجته به وإن اشتدت فالله لا يعجزه شيء فى الأرض ولا فى السماء ، كما أن المؤمن يوقن أن اختيار الله تعالى له أفضل من اختياره لنفسه وإن بدت فى اختيار الله شدة؛ إلى آخر ما يثمره الإيمان الصحيح .
والواقع العملى يشهد أن الصالحين هم أسعد الناس على الإطلاق وكلما اقترب العبد من ربه هدأت نفسه واطمأن قلبه وانشرح صدره وانصلح باله وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (محمد : 2)
وبذلك يكون الإسلام قد وفر علينا الوقت والجهد ووقانا شرور التجارب التى قد تفشل ولا نشعر بفشلها إلا بعد فوات الأوان وبعد أن ترهق الناس ويصيبها العنت والنصب .
لقد عرَّف المسلم بمن خلقه ولماذا خُلق ؟ وإلى أين مصيره ؟
وأجاب عن هذه الأسئلة الثلاثة التى حيرت البشرية وأرهقتها وما اهتدت، وكان عدم الاهتداء لجواب عن هذه الأسئلة سببا فى شقاء الإنسان وإرهاقه بل كان سببا فى انتحاره ليتخلص من الحياة لأنه يعيش بلا هدف.
إن الإسلام بمنهجه التربوى الفريد يستطيع أن يربى الفرد المسلم المستقيم النافع لنفسه ولمجتمعه وللناس جميعاً فيعيش في خير دائماً إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر فهو بين الشكر والصبر يعيش فى أمن وسعادة.